خواطر في الصحراء: بيت في الصحراء
بقلم: سمير عطا الله

النشرة الدولية –

دفعني قدري منذ البدايات في اتجاهات أشكر ربي عليها. الصدفة – أو القدر – حملتني إلى العمل في الكويت. ودخلت منذ ذلك الوقت تحت قنطرة عربية. بدلاً من أن أذهب في اتجاه «لبناني» محلي، ذهبت في اتجاهات عربية، حتى خلال العمل في بلدان أجنبية. من الكويت سافرتُ مراسلاً إلى العواصم والقمم والمؤتمرات العربية. وعملتُ في الصحف العربية أكثر بكثير مما عملت في الصحافة اللبنانية. وكان لي زملاء وأصدقاء ورفاق في الصحافة العربية أكثر بكثير من لبنان. وذلك بين القراء العرب. وعندما أصل إلى أي مدينة عربية يكون لي فيها أصدقاء ورفاق أكثر من بيروت. وأمضي في القاهرة أو الرياض أو الكويت أسبوعاً ألتقي خلاله من الأصدقاء مَن ألتقي في بيروت خلال عام.

وفي هذا القدر العفوي لم أعد أعرف هويات أصدقائي، أو طوائفهم، أو أحزابهم، أو يتوقف أحد منهم عند هذا الأمر. وبسبب هذا القدر العربي عرفت في المهنة بعضاً من كبار العرب، وتشرّفت برعايتهم وصداقتهم وثقتهم. ولو بقيت «محلياَ» لما تعدى أصدقائي وزملائي رفاق مقاهي الروشة وثرثرتهم ونمائمهم.

في مذكراتي التي آخر إنجازها مزاج لبنان الكئيب ومذلات جبران باسيل والشعور بهوان لبنان في هذا العمر، أبدأ المذكرات بالامتنان للكويت التي جعلتني أتجه… شرقاً. عملت في الكويت وليبيا (الملكية) والصحافة السعودية، وكأنني أعمل بين أهلي. لم أشعر مرة بأنني بين غرباء أو خصوم أو أعداء إلا يوم عملت في صحافة لبنانية؛ سواء في لبنان نفسه أو خارجه. وغالباً ما تمحو السنون غبار وعوابر الأيام، لكن المجانيات اللبنانية في صحافة الخارج، صغيرة بحيث تُنسى ولا تُمحى. يا إلهي كم كانت صغيرة. إلى الآن أشعر بشيء لزج على جلدي عندما يخطر لي ما تطفّلتْ به بعض الأيام وما لزجت.

جعلتني التجربة العربية أوسع أفقاً من محدوديات لبنان وضيق المسارح الصغيرة. كان لي أصدقاء حقيقيون وطيبون بين الشيوعيين وأهل اليسار وأهل اليمين ومن دون أي حرج. فالصداقة كانت في المودة، لا في الظرف ولا في المصلحة ولا في تبدّل الأيام.

وفي هذا العالم أغبياء رغماً عنهم ورغماً عنّا.

أكتب هذه السلسلة بعد أكثر من نصف قرن، وأنا أشعر بأن ما كان يعدّه الناس حياة في التنقل وعدم الاستقرار تجمّع في مودّات عربية مثل أكياس الذهب. رسم لي الجزء الطيب من قدري مجموعة صداقات ومعارف واعتزازات من بنغازي إلى صنعاء. وعندما يحدثني كاتبناً وشاعرنا عبد الرحمن شلقم عمّا لي في الجزائر أو المغرب من سمعة، أشعر بأن مكافآتي في الحياة في وهران وكازا وسوسة وليست في بيروت. وكل ذكرى مهنية في لبنان ترافقها مرارة الحسد ولؤم الفشل وتفاهة انعدام المواهب.

يفرحني أن يكون لي في بلد عربي بيت وأصدقاء. وأن أتلقى تحيات 11 ألف متابع على صورة نشرها الصديق سلطان العريفي على حسابه في يوم واحد. تذكّرت بكل مرارة أن مجموعة من الصحافيين اللبنانيين أغلقت اثنتين من كبريات المجلات العربية لأن أحد أفرادها كان يريد اسمه محل اسمي، على اعتبار أنه أكثر استحقاقاً. المؤسف أن الأيام والسنين والحقائق؛ وخصوصاً المعادن، كان لها رأي آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button