بيروت ـ بُريدة ـ الجنّة
بقلم: سمير عطا الله

النشرة الدولية –

قيل «ربّ أخٍ لك لم تلده أمك»، لأن العمر يضعنا في مودات أعلى من الصداقة وأقل من صلة الرحم. وتتضمن هذه المرتبة من العلاقات جميع أشكال المودة، وتتعمق مع العمر، ولا ترتبط بزمان أو مكان أو أي شرط. والفارق المهم بينها وبين أخوة الرحم، أنها اختيارية لا قدرية، وخاضعة للتجارب، ومقوّاة بامتحانات الصمود.

لي في الحياة أخوة كثيرون. جميعهم أفضل مني في حفظ المودات. وهم من هويات كثيرة، ومن بلدان كثيرة، ومن طباع مختلفة وانتماءات متعددة وصفات عدّة، يضبطها جميعاً موقف واحد من مستوى القيَم. ولا يهم إطلاقاً اختلاف المشاعر السياسية أو الوطنية أو القومية أو الاجتماعية. إذا كان لها من وجود، لأنها دائماً أدنى أهمية من المودة نفسها.

في جدة، قبل أيام، جاء إلى طاولتي في مطعم الفندق رجل وقور يعرِّف نفسه بجديّة خالصة: أخوك الذي لم تعرفه بعد، سليمان السعيد! وفهمت من الاسم فوراً أنه أخو الدكتور عبد الرحمن وأحمد. وأمضينا ذلك المساء نتحدث في قضايانا كلها. وكأنما «أبو حمد» ترك بيروت للتو، وكأنني وصلت من القصيم قبل دقائق. لم تكن هناك أي غربة أو ظلال غربة بين رجل قادم من قلب المملكة وآخر قادم من قلب لبنان. وغالباً ما نلتقي، أبا محمد (عبد الرحمن) وأبا خالد (أحمد)، في نيويورك أو لندن أو القاهرة أو بيروت، أو الرياض، ودائماً بالمرتبة نفسها: ما أقرب بريدة إلى بيروت.

هل هذا صحيح؟ بريدة وبيروت؟ تلك المدينة التي هي مضرب مثل في المحافظة والتحفظ والتقاليد، والعاصمة التي نشأت منذ قيامها على الانفتاح والبحر والسفر، بفتح السين وكسرها؟ يروي أبو حمد قصة الرحلة الأولى في الأربعينات إلى بيروت، قام بها شقيقه الأكبر: من بريدة إلى الكويت على ظهر ناقة، لمدة أسبوع، ومن الكويت إلى بيروت بالباص لأسبوع آخر. وفي بيروت انضم إلى المدرسة الإعدادية في الجامعة الأميركية.

لاحقاً، تكفّل كل أخ بتعليم الأخ الأصغر. وذهب الدكتور عبد الرحمن أبعد من بيروت في رحلة العلم ليتحصل على الدكتوراه من جورج تاون، واشنطن.

حكايات بيروت عند آل السعيد لا تنتهي. وكثير منها يبدأ في القصيم. وعام 1961 كان أبو حمد في لبنان. وكعادته صباح كل خميس، كان يبحث في «الصياد» عن «جعبة» سعيد فريحة، وذلك الخميس سوف يفاجأ بأن «الجعبة» كانت عن أحد مواطنيه! رجل من وجهاء البادية وزعماء القبائل كان في مزرعته يشرف على إنهاء الموسم ويقوم بنفسه بإحصاء ولادات البعارين (الإبل). أو الذلول، إذا شئت. وذات مرة لم يرق للمحبّر أن تسمى الإبل ذلولاً، فاعترضتُ قائلاً أين هي من الذل؟ هذه المخلوقات التي تطأ بمياسمها الجبارة الرمال الملتهبة وتروّض الكثبان؟

وتلقيت رسالة ساخرة من الرياض، يقول صاحبها، على رسلك يا أخا العرب، وشكراً لك على فزعتك إلى إخوانك في البادية، لكن هذا تماماً ما نقصده هنا بالذلول. أي الإبل التي تَذِلُّ وليس التي تُذَلُّ. وفي أي حال، شكراً لحسن نواياكم، ونرجو أن تحصروا اهتمامكم في حمى جبل لبنان، ولكم منا أعطر التحيات.

إلى اللقاء

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى