كيف سيطر “حزب الله” على لبنان؟

النشرة الدولية –

“اندبندنت عربية” – سوسن مهنا

منذ أن دخل “حزب الله” اللبناني بشكل صريح وواضح إلى الحياة السياسية اللبنانية، بمعنى أنه بات لديه نواب في البرلمان اللبناني منذ عام 2000، ولاحقاً وزراء في الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005، وهو يثير الجدل حول طريقة تعامله مع الدولة اللبنانية. هذا الحزب الذي بدأ عمله “متمنعاً” عن العمل السياسي تحت غطاء أنه “حزب مقاوم”، مارس “التقية السياسية”، بحيث أنه يضمر ما لا يعمل. ويعتبر أن سلاحه “مقدس” لمحاربة “العدو الإسرائيلي”، لكنه لم يتوانَ عن توجيه هذا السلاح إلى الداخل اللبناني في السابع من مايو (أيار) 2008. كذلك هو يؤكد دوماً أنه داعم لمؤسسات الدولة وللسلطة اللبنانية، لكنه ممارساته لا تنطبق مع أقواله، إذ عطل البلد بالاعتصام لمدة 18 شهراً، من 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2006 إلى 21 مايو 2008، متسبباً بشلل تام للعاصمة بيروت، وإقفال عشرات المؤسسات التجارية وإجمالي خسائر قدر حينها بنحو عشرة ملايين دولار يومياً. كما يردد باستمرار أنه مع أفضل العلاقات مع الدول العربية الصديقة، لكنه قام بزج البلد بحروب خارج الحدود، عندما شارك بالحرب السورية منذ عام 2012 لدعم جيش النظام السوري، متخطياً مبدأ “النأي بالنفس” الذي كانت قد رفعته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي منذ 2011، وللمفارقة أنه كان مشاركاً في التصويت على البيان الوزاري حينها، ومع هذا اتخذ قرار المشاركة متجاوزاً كل سلطات الدولة.

لكن هذه المفارقات في تعاطي “الحزب” بفوقية مع الدولة اللبنانية غيض من فيض. فقد استغل نفوذه تارةً وتحالفاته مع بقية الأفرقاء اللبنانيين تارةً أخرى، حتى تمكن من التغلغل في مؤسسات الدولة. حاول الكثير من السياسيين والباحثين التحذير من هيمنة الحزب والخطر الكامن وراء تمدد نفوذه، ولكن كل تلك التحذيرات انطوت تحت نظرية “الفيل داخل الغرفة”، الكل يدرك الخطر، لكن لم يفعلوا شيئاً على أمل ألا يحدث، في عملية إنكار مستمرة. من هنا استطاع الحزب أن يصبح الحكم والحاكم، وهذا ما يحصل منذ تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية (منذ عشرة أشهر). ينتظر الحلفاء (فريق رئيس الجمهورية) كلمته الفصل بعد أن فوض النائب جبران باسيل (عندما استعان بصديق) أمين عام الحزب حسن نصرالله، أيضاً يطالبه الفريق الآخر باتخاذ موقف واضح من عملية التشكيل، ما يجعل الوضع مثالياً بالنسبة للحزب، باعتبار أنه يتمتع بالقوة لفرض شروطه من دون أن يتحمل مسؤولية الأحداث.

من أين تأتي قوة “حزب الله”؟

من المعروف أن “حزب الله” يمتلك أسلحة “جيش متوسط الحجم”، مستنداً إلى كمية الصواريخ التي يمتلكها ونوعيتها، بحيث اعتبرته تقارير عدة “كأقوى جهة غير حكومية في العالم”، لكنه يستمد قوته من الدعم الإيراني، وهو لذلك لا يخفي ولاءه الأيديولوجي للنظام الإيراني، ويذكر في بيان صادر عنه في 16 فبراير (شباط) 1985، “أننا أبناء أمـة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسـست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم… نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة، تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسـد حاضراً بالإمام المسدد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني، مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”.

ولكن قوة الحزب الحقيقية تكمن في مصادر تمويله، إذ يعترف نصرالله بأن مصادر التمويل تأتي من طهران، ويقول في خطاب له في يونيو (حزيران) 2016، “نقول للعالم كله، موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من إيران، ولا أحد له علاقة بهذا الموضوع…”. وكانت مصادر لبنانية قد قدّرت أن المبالغ التي كان يتلقاها الحزب في فترة الثمانينيات بنحو 100 مليون دولار سنوياً، لتصل إلى 600 مليون دولار عام 2017، لكن تقارير غربية وعربية استقصائية كثيرة ذكرت منذ سنوات، ما يلي: “إذا ما تابعنا لائحة العقوبات التي تصدرها الولايات المتحدة الأميركية بشكل دوري، وراقبنا البلدان التي تنتمي إليها المؤسسات أو الأشخاص، لوجدنا أنها تغطي مساحة شاسعة جغرافياً من هذا العالم، يعني أن حزب الله لا يعتمد في تمويله فقط على إيران”، كما أن الحزب لا يعتمد في حركته المالية على الحوالات أو الحسابات المصرفية، حتى نواب ووزراء الحزب يتلقون رواتبهم نقداً من الدولة اللبنانية، وهذا معروف”. وإذا عدنا إلى كلام نصر الله خلال مقابلة تلفزيونية في يوليو (تموز) 2019، بعد العقوبات الأميركية التي أنزلت بنوابه، قال: “بالنسبة إلينا هي معركة بيننا وبينهم، وبالنسبة إلى الإخوة، لا أموال لديهم في البنوك، وهي جزء من الحرب القائمة”.

 

شبكات تمويل “حزب الله” السرية

لا شك أن الحزب تمكن من بناء اقتصاد خاص به مُوازٍ للاقتصاد اللبناني، حتى بات يعرف بـ”الاقتصاد الرديف”، منها “جهاد البناء”، و”شركة وعد”، و”القرض الحسن”، و”النية الحسنة الخيرية”… إلخ. كما أن أمواله لا يتم تحويلها عبر الجهاز المصرفي الرسمي في لبنان، بل إنه وبحسب مصادر مراقبة لحركة نقل الأموال للحزب من إيران، ودول أميركا اللاتينية، وأفريقيا إلى لبنان، فإنها تحصل عبر مطار بيروت الدولي ومن سوريا براً.

وفي هذا السياق، تظهر وثيقة بحثية صادرة عن معهد Chatham House “تشاتام هاوس” البريطاني، المتخصص في الأبحاث الاستراتيجية، أعدتها مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد، لينا الخطيب، في يونيو الماضي، الطرق المختلقة التي يسيطر بها “حزب الله” على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وكيف يمكن النظام السياسي في لبنان الحزب والجهات الفاعلة الأخرى من ممارسة السلطة من دون مسؤولية. وتستند الورقة البحثية بشكل أساسي على زيارات ميدانية للبنان بين 2005 و2020، ومقابلات بحثية وجهاً لوجه وعبر الإنترنت، فضلاً عن محادثات غير رسمية مع مجموعة واسعة من الفاعلين وأصحاب المصلحة، بمن فيهم أعضاء الجماعات السياسية والخدمة المدنية والجيش والمنافذ الإعلامية.

وتقول الخطيب، إن الحزب بصفته لاعباً هجيناً صعد ليصبح أكثر المنظمات السياسية نفوذاً في لبنان، وبات يتمتع بالشرعية داخل الدولة اللبنانية، وقادراً على العمل من دون المساءلة المطلوبة، سواء من الدولة أو المسؤولية تجاه الشعب اللبناني. وترى أن من شأن سيطرة الحزب على وزارة المالية أن “تغطي تورطه في غسل الأموال ضد تدقيق الدولة، لا سيما في ما يتعلق بالتدفق النقدي إلى حزب الله من الشتات الشيعي، وهو مصدر تمويل لا تتمتع به الأحزاب السياسية الأخرى في لبنان”. وتتابع أن انخراط الحزب في غسل الأموال كمصدر للإيرادات موثق جيداً، وقد غزز ضعف الدولة اللبنانية ذلك من خلال ضعف المراقبة وتنظيم المؤسسات التجارية والمالية، فضلاً عن التشريعات السرية المصرفية طويلة الأمد في البلاد. وكانت وزارة الخزانة الأميركية تتعقب النشاط المالي غير المشروع لـ”حزب الله” في لبنان والعالم، ما أدى إلى إغلاق عدد من البنوك في لبنان (مثل البنك اللبناني – الكندي)، ثبت أنه سهل مثل هذا النشاط.

وتضيف الخطيب أن “حزب الله” على الرغم من أنه يستخدم خطاب مكافحة الفساد، فإن سياسييه لم يستخدموا نفوذهم لدفع الإصلاحات والبدء بمحاسبة الفاسدين”، معتبرة أن محاولات الحكومات الغربية للجم نفوذ الحزب عن طريق العقوبات غير كافية. وتعتبر أن هذا التأثير يتأتى من عوامل عدة، من بينها “استفادة الحزب من راعٍ خارجي موثوق هو إيران على عكس الأطراف الأخرى، وقدرته من حيث التنظيم والتمويل وحشد المناصرين، وهو ما يفوق قدرة الأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى”. وتؤكد أن “حزب الله” يستخدم التمثيل الوزاري لخدمة مصالحه، أسوة بباقي الأحزاب السياسية الحاكمة، لكنه يصر على وزارتي الصحة والمالية في الحكومة المقبلة، ما يمنحه سيطرة مباشرة على قطاعين رئيسيين مرتبطين بمصالحه بشدة. وتستند إلى وثيقة مسربة عام 2010 من مجموعة “ستراتفور” البحثية ونشرتها “ويكيليكس”، إلى أن أحد أسباب إصرار الحزب حينها، على أخذ وزارة الزراعة هو اعتماده بشكل متزايد على نيترات الأمونيوم لتصنيع المتفجرات، كبديل عن المواد المتفجرة الاعتيادية كالـ”سي فور” وغيرها، فقام الحزب بتخزين الأمونيوم من باب الأسمدة الزراعية. وتتابع، “بينما يتفشى الفساد داخل المؤسسات اللبنانية، يبرز الحزب على رأس أولئك الفاسدين بسبب تورطه في أنشطة عالمية غير مشروعة، من هنا إصراره على حقيبة المالية لأن من شأن ذلك حمايته من التورط في غسل الأموال”. وأدى الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (أب) من العام الماضي، والذي تسببت فيه كميات كبيرة من نيترات الأمونيوم ممزوجة بمواد كيماوية أخرى، ما أدى إلى مقتل وإصابة مئات المدنيين وتدمير المرفأ والمناطق السكنية المحيطة به، وما تلاه من تكثيف الاهتمام المحلي والدولي في شأن تورط الحزب في تدمير الميناء والحرب في سوريا، من خلال دعم نظام بشار الأسد. لدى المجموعة سجل موثق جيداً في استخدام نيترات الأمونيوم في صنع المتفجرات، والمادة الكيماوية هي أحد مكونات البراميل المتفجرة التي استخدمها نظام الأسد في الصراع السوري.

السيطرة على المرافق العامة

وتتابع الوثيقة البحثية، أن الحزب لا يترك مكاناً داخل لبنان إلا ويفرض سيطرته عليه في سبيل تحقيق نفوذه والحفاظ على مكاسبه. وفي هذا السياق، تشير إلى أنه “يمكن لحزب الله والأطراف اللبنانية الأخرى استيراد البضائع المعفاة من الجمارك بفضل قرارات مجلس الوزراء الخاصة بجمعيات النفع العام”، ويستخدم الحزب مثل هذه المراسيم لخلق غطاء لبعض أنشطته الأمنية.

وتعمل مؤسسة “جهاد البناء” التي تأسست بموجب مرسوم في 25 أكتوبر 2000، ويديرها المجلس التنفيذي لـ”حزب الله”، في مجالات البناء والزراعة والمياه والطرق والصناعة وحماية البيئة، بالإضافة إلى دائرة فنية. وتعمل هذه المؤسسة بالشراكة مع العديد من الكيانات الحكومية اللبنانية، لا سيما من خلال البلديات واتحادات البلديات في المناطق ذات الأغلبية الشيعية.

وتؤكد الخطيب أن “تورط حزب الله في تجارة الأدوية المشروعة وغير المشروعة يعتبر مصدر دخل مهماً للجماعة، حيث تشير تلك الأنشطة في هذا المجال إلى قدر تورطه في الفساد”.

وتضيف أن “سيطرة الحزب على عضوية المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وهو مؤسسة حكومية تابعة لرئاسة الحكومة، تسمح له باستيراد مجموعة واسعة من البضائع عبر مطار بيروت ومينائها من دون دفع رسوم جمركية”.

وتقول الباحثة، إن “حزب الله يختلف عن باقي الأحزاب المناوئة له في كيفية استخدامه لمرفأ بيروت، إذ يستغله لنقل المخدرات والأسلحة والمواد المتفجرة داخل لبنان وخارجه من دون أية رقابة حكومية على عملياته أو تفتيش حظائره التي يستخدمها”. كما أن “البضائع غير المشروعة تدخل لبنان في بعض الأحيان عبر الميناء لنقلها براً إلى سوريا. وفي أوقات أخرى تخزن المواد المستخدمة في صنع المتفجرات في الميناء ويتم جمعها مؤقتاً لتجهيزها للشحن إلى الخارج”.

التورط بتهريب المخدرات

وبحسب الوثيقة البحثية، يعتبر تورط “حزب الله” في عمليات التهريب عبر الحدود، بما في ذلك المخدرات، مصدر دخل مهماً للجماعة. وتؤكد أن انخراطه في تهريب البضائع قد ازداد خلال العامين الماضيين حين تضرر كل من لبنان وسوريا بأزمات اقتصادية حادة. وفي عام 2020، اجتذب تهريب “حزب الله” للبضائع المدعومة من الدولة اللبنانية لبيعها في سوريا، اهتماماً عاماً كبيراً. ويمكن ربط انخراطه في تهريب القمح والوقود المدعومين بالضغوط الاقتصادية التي يواجهها وداعمته الرئيسة إيران، نتيجة العقوبات الأميركية على طهران وعليه بسبب انخراطه في الحرب السورية. وتشرح الوثيقة كيف يقوم بتهريب زيت الديزل والبنزين من لبنان إلى سوريا من خلال التعاون مع ماهر الأسد ولوائه الرابع. فزيت الديزل المدعوم من الدولة في السوق اللبنانية يباع بسعر وسطي يبلغ 9000 ليرة لبنانية، ما يعادل (47 سنتاً أميركياً)، إلا أنه يقوم ببيعه بالاشتراك مع اللواء الرابع في سوريا بسعر وسطي يقدر بـ15 ألف ليرة لبنانية، (78 سنتاً أميركياً).

وتضيف الخطيب أن النفوذ الذي يتمتع به “حزب الله” على الخدمة المدنية هو بمثابة قناة أخرى لتحقيق الأرباح، كما الحال مع الأحزاب الأخرى في لبنان، مشيرة إلى أن المدير العام لكل وزارة يستطيع الوصول لأموال مخصصة يمكن استخدامها من دون توقيع الوزير.

وأضافت، “هذا يسمح للحزب، بالوصول للأموال بغض النظر عمن هو الوزير وفي أي وقت. وتحصل الأحزاب في الحكومة، من بينها “حزب الله”، على مثل تلك الأموال من خلال وجود وزراء يقدمون منحاً للمنظمات غير الحكومية، (بعضها وهمي) التابعة لهم”.

وتخلص إلى أنه في حين يعد “حزب الله” عاملاً مساهماً في ضعف الدولة اللبنانية، فهو أيضاً نتاج النظام السياسي في لبنان، لافتة إلى أنه مع استمرار وجود النظام السياسي الحالي هناك، لن يكون ممكناً الحد من قدرة سيطرة الجماعة على لبنان.

ومع تصنيف دول غربية عدة تلك الجماعة “إرهابية”، فإن سيطرتها على السلطة ستحرم لبنان من المساعدات الخارجية التي يعتمد عليها.

“حزب الله” ينفي

لكن حسن نصر الله كان قد نفى ضلوع جماعته في عمليات إنتاج “الأمفيتامين”. وقال في تصريح تلفزيوني في يناير (كانون الثاني) 2021: “إن موقفنا من المخدرات بجميع أنواعها واضح، ومن المحرم دينياً تصنيعها وبيعها وشراؤها وتهريبها واستهلاكها. وفي بعض الحالات قد تصل العقوبة إلى حد الإعدام، بحسب قوانين الشريعة الإسلامية”.

وأضاف أن علماء الدين يحظرون أي تورط في تجارة المخدرات “حتى لو كان الهدف منه تمريرها إلى العدو”. وذلك بعد أن حامت الشكوك حول دور “حزب الله” بشحنة 14 طناً من المخدرات صودرت في إيطاليا في يونيو عام 2020.

كما نفى أمين عام “حزب الله” في 7 أغسطس (آب) 2020 اتهامات بأن يكون لدى حزبه أسلحة مخزنة في مرفأ بيروت، ودعا إلى تحقيق عادل وشفاف في أكبر انفجار تشهده العاصمة اللبنانية.

وقال في خطاب، إن الانفجار الضخم في مستودع المرفأ الذي هز العاصمة، كان “حادثة استثنائية” تتطلب الوحدة والهدوء. وأضاف أن الجماعة ستوضح موقفها السياسي عندما تهدأ الأجواء في البلاد.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button