إصدار جديد ل “أ.د. وجيه يعقوب السيد” تحت إسم “فإني قريب”
النشرة الدولية –
صدر حديثاً لأستاذ النقد الأدبي والأدب الحديث أ.د. وجيه يعقوب السيد، الذي يحمل أسم “فإني قريب”، ضمن إصدارات الشركة العربية الحديثة (سلاح التلميذ)
يقول المؤلف في تقديمه لكتابه الجديد، يعيش العالمُ بأسره هذه الأيام أجواءَ محنةٍ عاصفة كئيبة؛ محنةِ انتشار هذا الوباء الغامض على نطاق واسع، وما صاحب ذلك من حالة هلع وذعر شديد لدى الناس كافة.
رؤساءُ دولٍ ومسؤولون كبار يبكون وينهارون تمامًا، ويعلنون صراحةً عن عجزهم التام عن فعل أي شيء حيال هذا الفيروس، رئيسُ وزراء دولة أوربية يعلن: لا تُوجَد لدينا حلولٌ في الوقت الراهن للقضاء على هذا الوباء، وننتظر الحلول من السماء، في إشارة إلى الله خالق السماوات والأرض، القادر على كل شيء، الرحمن الرحيم، وآخَرُ يُعلِن في استسلام أنه بات علينا أن نتأهب لفقد مزيد من أحبابنا، بسبب هذا الوباء القاتل.
كلُّ شيء في العالم توقف تقريبًا؛ السفر، والتجوال، والبيع، والشراء، والرياضة، والسياحة، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث في الغد القريب أو البعيد، وبات الجميعُ مشغولين بمتابعة أعداد المصابين والمتعافين والمتوفين؛ وهو ما تسبَّبَ في انتشار الفزع والخوف في النفوس، بل والانهيار التام وعدم القدرة على التماسك في أحيان كثيرة.
وفي هذه الأجواء المظلمة والكئيبة التي تلف الكونَ بأسره، علينا أن نتشبث بأهداب الأمل، ونتطلع إلى منبع النور في السماء، وأن نلجأ إلى الله طالبين منه أن يمنحنا الشعور بالأمن والسكينة؛ فهو اللطيف بعباده، الرؤوف الرحيم، الذي يكشف السوء ويجيب المضطر إذا دعاه.
فكم من أزمة ومحنة مَرَّتْ بها البشرية ثم تجاوزتها؛ بالصبر، وبصدق التوجه إلى الله، وبالأمل، وبالتفاؤل، والأخذ بالأسباب، وكم من أزمة ومحنة عاشها الإنسان وضاق بها ذرعا، ثم كشفها الله عنه بفضله وعظيم إحسانه، ليظهر لهذا المخلوق أمورا وحقائق ومعاني كثيرة كان يجهلها.
إن هذا الكتاب ما هو إلا محاولة للتعامل بصورة إيجابية مع الأزمات والمحن، من خلال تسليط الضوء على كثير من الموضوعات؛ الإنسانية، والدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، والأدبية، التي تأخذ بأيدينا إلى الطريق الصحيح، فلا جزع ولا خوف ولا اضطراب؛ وكما قيل: بدلا من أن تلعن الظلام فأوقد شمعة تبدد بها هذا الظلام، وها نحن نحاول أن نقتبس من وحي القرآن الكريم، وكلام سيد الخلق، وسِيَرِ الصالحين، وتجارب الحكماء والأدباء والمثقفين، ما نبدد به تلك الظلمات، وإني على يقين أن وراءَ كلِّ محنة منحةً عظيمةً، وعطاءً لا حدود له، فلنعلن معا: اشتدي الأزمة تنفرجي، فإذا كانت الأزمة كبيرة ومستعصية على الحل، فهناك رب عظيم لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي يدبر الأمر، بيده ملكوت السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها ** فُرِجَتْ وكنت أظنها لا تُفْرَج
المؤلف: د. وجيه يعقوب السيد
(فإني قريب)
يقول تعالى:” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” [البقرة: 186].
سأل قومٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله، أقريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فنزلتْ هذه الآيةُ الكريمةُ تجيبهم بأن الله قريب من عباده، حبيب إليهم، لا يغيب عنهم، يسمع سرهم ونجواهم، ويصرف عنهم الضر والسوء إن شاء.
وما أجمل هذا المعنى وما أعظم أثره في القلوب؛ فالذي يتأمل نَظْمَ الآية الكريمة، ويمعن النظر في ألفاظها ومعانيها، يدرك أن الله تعالى أراد أن يتعرف إليه عبادُه بأعظم صفاته وأحبها إلى نفوسهم، وهل يستطيع الإنسان أن يستغني عن خالقه ورازقه؟ وهل بمقدوره ذلك؟
كلنا نتعلق بأهداب الأمل، ونتسربل برحمة الله التي وسعت كل شيء، ونسأله التوفيق والسداد، وندعوه أن يوسع في أرزاقنا، ويبارك في أعمارنا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، ولا نمل من ذلك، ولا يمل الله من سماع دعاء عباده أبدا، بل إنه يحثهم على دعائه، والإلحاح في الطلب منه سبحانه.
اللهُ يَغضَب إنْ تركتَ سؤالَه ** وبُنَيُّ آدمَ حين يُسْأَل يغضب
هل لاحظت معي تكرار حروف اللين (المد) في الآية الكريمة؟ لقد تكررت حروف المد عشر مرات في هذه الآية القصيرة، وحروفُ المد واللين تناسب الدعاء، وما يكون عليه العبد من خشوع ولين وتذلل، كما أنها تعكس رغبة العبد في إطالة وقوفه بين يدي الله عز وجل ومناجاته.
ولو أمعنت النظر في كلمتي (الداعِ) و(دعانِ)، ستجد أنهما كُتِبَتَا بدون الياء، وذلك حرصا من كاتب المصحف على تجسيد سرعة الإجابة، فلذلك لم يفصل بين الدعاء والإجابة، ولو بمجرد حرف. وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تؤكد أن كتابة المصحف تراعي معنى الآيات.
وإليك هذه الملاحظة السديدة التي ذكرها العلماء والمفسرون الكبار، وهي في الحقيقة بشارةٌ عظيمةٌ؛ فالمولى عز وجل قد أراد أن يرفع قدرَ عبادِه ويُشَرِّفَهم، فجاءت الإجابةُ على سؤالهم منه مباشرةً بدون واسطة، فلم يقل عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فقل لهم كذا وكذا، كما في سائر الآيات الشبيهة، وإنما قال:” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب”، أي أنا أتولى الإجابة عليهم بنفسي وبدون واسطة، وهل هناك تشريف وتكريم أعظم من أن يجيب الله على سؤال عباده بنفسه بدون وسيط؟
أليس هذا دليلَ حُبِّه لك؟ ألا ترى كيف أجابك؟ وبم وصفَ عز وجل نفسَه؟ إنه الجواب الذي تطمئنُّ به القلوبُ، وتهدأ المخاوفُ، وتزول الهواجس إلى غير رجعة.
ولكن لماذا هذه الآية وحدها هي التي جاءت على هذا النحو وهذا السياق؟
ذلك، لأن المؤمنين سألوا الرسولَ الكريمَ عن صفات ربهم، وسؤالُهم عن صفاته عز وجل يدل على تعظيمهم لله عز وجل، ويعكس رغبتهم في التقرب من خالقهم والتذلل إليه، فهم لم يسألوا عن مصلحة شخصية أو أمر دنيوي، فناسب ذلك أن يُجيبهم الله بما تقرُّ به عيونهم.
ومن جميل ما قاله الإمام القشيري في هذا المعنى في كتابه الفريد لطائف الإشارات: الذين يَسْأَلون عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض وعن الأهلة ونحوها يُجَابون بالواسطة، وأما الذين يَسْأَلون عني فإني أرفعُ الوسائطَ بيني وبينهم.
والقرب هنا معناه: أن من طلبني بعقله وجدني وعرفني، وذلك من خلال ما يراه من دلائل عديدة على عظمة الخالق، وإنما أرسل الله الرسلَ زيادةً في التعرف ورفعًا للحرج بسرِّ التلطف، ولا شك أن سرعة إجابته تعالى لعباده حجةٌ عليهم؛ فعلى الرغم من أنه الإلهُ المعبودُ، ذو الجلال والإكرام، مالكَ الملك، فهو لا يخذل عبدَه ولا يترك إجابتَه، فمن بابٍ أولى أن يُجيب العبدُ سيدَه ويطيع مولاه، فهو الغنيُّ وعبدُه هو المحتاج، وهو القويُّ وعبدُه هو الضعيف.
وما أروعَ إجابةَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه وأرضاه حين سُئِل: كم بين السماء والأرض؟ فقال: دعوةٌ مستجابةٌ.
إنها إجابةٌ عبقريةٌ وفريدةٌ حقًا، فالمسافة بين السماء والأرض بعيدة جدا؛ ملايين الكيلو مترات تفصل بينهما، لكنها قريبة جدا أقرب مما نتصور، حين نكون على يقينٍ بأن دعاءنا يصعد إلى الله في نفس اللحظة التي يصدر فيها، ويُكتَب له القبولُ والإجابةُ من الله تعالى القريب المجيب. وصدق الشاعر:
لو لم تُرِدْ نيْلَ ما أرجو وأطلبُه ** مِن فيْض جودك، ما عَوَّدْتَّنِي الطّلبا