“الدّمعة الآسِيَةُ” لعبد النبي حسين: غوص في الهويّة الثقافيّة وأبعادها الإنسانيّة
لأنّ الكتابة في هذا الزمن الرديء فعل محبّة، وتُبنى مشروعيّتها الفكريّة على أصالةٍ راسخة في الذات، جاءت #رواية “#الدّمعة الآسية” ل#عبد النبي حسين، الصادرة عن دار الولاء، وجدانًا ينبض بأسسِ التعليمات التطبيقيّة لخلاصة الأديان في كفالة اليتيم ومنهجيّاتِها.
سلاسة أسلوب الراوي الظاهرة في مقدّمة الكتاب، والتي تميّزت برقّتها وتناغمها، تُشعر القارىء بالعذوبة الطاغية على السطور. نجح الكاتب في الفصل الأوّل المعنون “رُبَّ صدفة (شرٌّ) من ميعاد”، في بناء صورة لحالة الظلم التي اختُصَّ بها مشغّل اليتيمة زينب؛ كما نجح في محاولة الوصول إلى مجمل الشخصيّات التي تتضمّنها الرواية، بفضل الغنى الفكري للمضمون، محاولًا إخراج الشخصيّة الوجدانيّة بشكل يُظهر تماهيها مع المكان والزمان، لتبقى الحقيقة عارية مرئيّة، ومنسجمة مع ما يعتري الإنسان المسكون بالفضيلة.
أمّا في الفصل الثاني من الرواية “سعد في قرية مرج الزيتون”، فقد بان السباق المحموم من أجل رعاية زينب وأخيها أحمد اللذّيّن كانا يتيمين فأصبحا لطيمين. لَئِن كان هذا السباق إلى الصلاح ظاهرًا في السرد من أجل تسلسل الرواية، إلّا أنّه بقي مكتومًا في نفوس الأشخاص الذين خاضوه، وآثروا أن تكون زياراتهم سرّيّة إلى منزل مختار مرج الزيتون،المؤتمَن على زينب وأخيها. وكانت الغلبة في السباق للحاج أسعد غلبون عبد الباقي، تاجر الأحذية البعلبكي، الذي سبق سعيد صاحب دكّان السّمانة إلى الهدف النبيل.
وتَتَتابَع فصول الرواية، محبوكةً بكلمات تعبيريّة سلِسَة تجذب القارىء، ناقلة له أوجاع العمر التي تحفر في القلوب، كجمر لا يعرف الانطفاء. الرواية قائمة على عدّة أقاصيص، لكلّ شخصيّة قصّتهاالمختلفة، وقد اجتمعت هذه القصص لتؤدّي هدف الرواية التوجيهي. فقصّة “أبو فارس وكلبه” انصهرت مع واقع لذّة الإحسان وعواقبها الحميدة. وقصّة “أم عيسى وزلفى”، وصفت نوازل الأيّام ومتاهة الظلمات، حين ابتُليت أمّ عيسى بأصناف الاضطهاد الممارَسة عليهابحقد عبثيّ وخبث لئيم كامن في نفس كنّتها المعلّمة زلفى. أمّا خلال قصّة المعلّمة ليلى صديقة زينب بطلة الرواية، فقد ظهرت حكمة التدبير الإلهي، والتعويض الربّاني. فالله تعالى، لِنافِذ قدرته وبالغ حكمته، كان من لطيف ما دبّره وبديع ما قدّره أن عوّض قلبها الطاهر عن حبيب أصابته إعاقة بعد حادث سير في غربته، بزوج خلوق مؤمن. فشعرنا بقدرة الخالق، وعلمنا غناه هوالرازق الكريم.
أمّا في غيبة الحاج أسعد غلبون عبد الباقي كافل اللطيمين، فثمّة سرٌّ غير مباح، بُنيت عليه أُسس الرواية، تَمثّلَ بشغف زينب لمعرفة مكان عمّو أسعد، بغية لقائه وشكره على دفع تكاليف المبرّة المختصّة بإيلاء الأيتام،والتي تعيش فيها مع أخيها. ورغم سعيها الحثيث وإصرارها، لم توفّق في مأربها النبيل. فكانت مراسلات متبادلة بينهما على صفحات جريدة “الغدير”، بناءً لنصيحة مدير المبرّة، اكتشف خلالها “عمّو أسعد” براعتها في اللغة العربيّة كتابةً وتعبيرًا، فحثّها على خوض غمار الحرب الأزليّة القائمة بين الغني بماله والفقير المعدم، حيث تبيّن في نهاية الرواية أنّ الغِنى ليس إلّا الإحسان إلى الإنسان، وهو بمثابة ورود عطرة تُرفع إلى الرب قبل المثول أمامه.
لم تعلم زينب أنّ أستاذ الأدب في المبرّة، الذّي يدعى “صالح”، هو “عمّو أسعد” نفسه، إلّا بعد انتقاله من دنيا الفناء إلى دنيا البقاء، فأشعل في قلبها جذوة الصلاة، وسعت من خلال نهجه لالتماس الطريق… هو الأستاذ الذي لامست محبّته سرًّا شغافَ قلبِها، وكان بمسلكه للفضيلة بابًا، وللكرم دوحةً عليّة.
تقاسمت زينب اليتيمة البطولة مع المُحسن الغامض، ما يدفع القارئللغوص في عوالم هذه الرواية، طارحًا جملةً من الأسئلة المتعلقّة بهويّة الكاتب وهويّة الكتابة، ليس لأنّها رواية من تلك الروايات السرديّة، بل لأنّها تنبع من مفاهيم دينيّة سامية، أجمعت الأديان السماويّة على تطبيقها. فجاء هدف الرواية توجيهيًّا، يضيء على دلالات عديدة تتعلّق بنوعٍ آخَر من الأبطال، الذّين كانوا أداة في يد الخالق لتنفيذ مبتغاه. فالأبطال في الأساطير القديمة ارتبطوا بالآلهة والتصوّر الديني، أمّا في هذه الرواية، فقد كانوا نسخة بشريّة، تجاهد وتكافح، من أجل الحفاظ على ذاتها البشريّة، رغبةً في السير في عوالم الإنسانيّة.
عرّى الكاتب ذواتنا، وأجبرنا على الاعتراف بما نحاول طمسه وإخفاءه، من تجاهل لليتم. وقد زادنا هذا الأمر تخبّطًا في ازدواجيّتنا،بسبب واقعنا الممزوج بما نُظهره للآخرين، وما نحن عليه فعلًا من مراوحة بين حبّ المال والعطف الغائب فينا.كما جعلنا نعلم أنّ الأرض هي حضن الفرح والأمنيات، وهي الرمز الباقي لاستمرار الحياة. ظهر هذا جليًّا عند توريث اللطيمين عقارًا يحتوي شجر زيتون، كان للأستاذ صالح. وبذلك ربحَ يتيم الأرض الكثير الكثير، من ثقافة وانتماء… فعِلْم المبرّات سلاحٌ، والأرض الموهوبة لقلبه انشراح.
أُسندت رعاية اليتيم إلى أستاذ الأدب، ليس انتقاصًا من بقيّة الأساتذة ذوي الاختصاصات المغايرة، إنّما ليظهر مدى دور الأدب في المسيرة الإنسانيّة ووعي المجتمعات. فالذّين يغوصون في الأدب والفلسفة ويكتبون عنهما، ويملكون على قلوبنا، أمثال عبد النبي حسين، يجعلوننا ندرك أهمّية هذه الهويّة الثقافيّة وأبعادها الإنسانيّة والاجتماعيّة.
“النهار” – يوسف طراد