سامانثا باور.. المهاجرة التي صعدت لتمثل أميركا
بقلم: د. نادية عويدات
النشرة الدولية –
عن موقع الحرة –
تعد الولايات المتحدة أهم وأكبر سوق للكتب في العالم فهي الناشر والمستهلك الأكبر لها. لذا ليس من المستغرب أن يسارع المثقفون وخصوصا صناع القرار منهم لنشر كتبهم في هذه السوق المربحة. وتعد السير الذاتية تحديدا لأفراد النخبة من أكثر الكتب تداولا لدرجة انها أصبحت الطريقة المتوقعة لكسب المال بعد اعتزال المناصب الحكومية ذات الرواتب المتواضعة، فاحترام حقوق النشر يعني حفظ أرباح الكُتاب وقدرتهم على كسب رزقهم من الكتابة. وكذلك تتسابق دور النشر لتوقيع عقود مع الكتاب الذين تتوقع نجاحهم مما يخلق منافسة على المشاهير. فمثلا، حصل الرئيس السابق باراك أوباما وزوجته ميشيل أوباما على خمس وستين مليون دولار مقابل كتابهما (وسوف يتناول مقال مقبل مذكرات الرئيس أوباما). ولا يحصل كل الكتاب على هكذا ايرادات لكن مما لا شك فيه أن الكتاب الأكثر مبيعا يحصدون الملايين. يتناول هذا المقال أحد هذه الكتب وهو عبارة عن سيرة ذاتية لسامانثا بارو، سفيرة الولايات المتحدة للأمم المتحدة سابقا والتي تشغل حاليا منصب رئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
تنحدر سامانثا باور من خط طويل من المهاجرين الذين قدموا لأميركا طمعا في حياة أفضل وصعدوا سلم النجاح حتى وصلوا للعمل في البيت الأبيض ليمثلوا الولايات المتحدة على المسارح الدولية. في الواقع، كما تذكر باور نفسها في كتابها الذي صدر مؤخرا “تعليم شخص يؤمن بالمثالية”، التعددية في المناصب الحكومية في الولايات المتحدة لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم. ومن أبرز من شغل هذه المناصب على المستوى الوزاري هنري كسنجر مهاجر من ألمانيا ومادلين أولبريت المهاجرة من التشكوسلوفاكيا وكلاهما شغل منصب وزير الخارجية. أما على مستوى السفراء فلائحة المهاجرين تطول وتطول.
أما عن السفيرة باور، فقد هاجرت مع والدتها وأخيها من إيرلندا. وتذكر باور في مذكراتها أن والدتها أرادت أن تدرس الطب وعندما قدمت طلبا للمحكمة في إيرلاندا للقدوم للولايات المتحدة لممارسة الطب مع طفليها لم يستطع القاضي الذي أعطاها وصاية على أطفالها أن يفهم سبب رغبتها لتحقيق هذا المستوى العالي من النجاح العلمي. لم يخطر بذهن العائلة حينها أن بارو ستصبح الوجه الممثل للولايات المتحدة يوما ما. تكتب باور في مذكراتها أن رحلتها مع السياسة بدأت أثناء تواجدها على مقاعد الدراسة في جامعة هارفرد حيث طورت اهتمامها بالصراع البوسني ما ألهمها للسفر إلى منطقة النزاع كصحفية لتغطي الأحداث وتحفز الولايات المتحدة من خلال كتاباتها للتدخل لإنقاذ المدنيين. بالرغم من جهدها وجهود زملائها الحثيثة، جاء التدخل الأميركي متأخرا لكنه جاء على أي حال وكان له دور حاسم في إنهاء النزاع ووضع حد لجرائم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش.
ولشدة اهتمام باور بالنزاع قررت أن تكتب كتابا عنه لتخبر العالم عن الإبادة الجماعية للمدنيين في البوسنة. حاز كتاب باور “المشكلة من جهنم: أميركا وعصر الإبادة الجماعية” على جائزة بولتزر وهي أسمى جائزة للكتابة يحصل عليها أي كاتب. هذا الكتاب كان أيضا سببا في التقائها بالرئيس أوباما حينما كان سيناتور في ولاية إيلينوي. توطدت علاقة باور بأوباما بعد أن قرأ كتابها فالتقيا لمناقشة الكتاب. مثالية كليهما أدت لتوطيد أواصر الصداقة بينهما. كانت باور أحد المؤمنين بأوباما في المراحل الأولى وشجعته على الترشيح لمنصب الرئيس، وكما يقولون، انتخابات أصبحت تاريخا. فقد فاز أوباما بولايتين وتم تعيين باور أولا في البيت الأبيض في مجلس الامن القومي وبعدها سفيرة للأمم المتحدة ممثلة للولايات الأميركية.
لكن، يُؤخذ على باور أنها تصرفت كالشخصيات التي كانت قد انتقدتها في كتابها عن الإبادة الجماعية لعدم تدخلهم لإنقاذ حياة المدنيين أثناء حروب الربيع العربي. فعندما قام الرئيس السوري بالهجوم على المدنيين بالغازات السامة مسببا موت المئات من المدنيين ومنهم الأطفال، كانت باور، ومن سخرية القدر، من أهم المسؤولين في الإدارة الأميركية على المسرح الدولي. تكتب باور في كتابها أنها أدركت، كما أدرك العالم، أنه في أي نظام ديموقراطي، لا يملك أي شخص قوة كاملة كما هي الحال في الأنظمة الدكتاتورية. فالمسؤولية والسلطة في الأنظمة الديموقراطية موزعة بين السلطات المختلفة ومنها السلطة التمثيلية المعوزة لأعضاء الكونغرس الذين كان معظمهم حينها من الجمهوريين المعارضين لأوباما ومشاريعه.لكن رغم ذلك تحدثت باور بإسهاب عن اللاجئين السوريين وساهمت في حماية حقوقهم. يشعر القارئ بتعاطفها مع المدنيين وتأثير أحداث مقتل الطفل إيلان الكردي (مثلا) عليها كونها أما لطفلين. وتظهر واضحة رغبتها بتحريك السياسة الخارجية لعمل شيء ما ولو الترحيب بعدد أكبر من المهاجرين في أميركا. ولكن لا تلبث تعاود الغرق في الإحباط والغضب من عدم قدرتها على تحريك السياسة مقارنة بقدرة الجمهوريين الذين استخدموا الحوادث الإرهابية للمتطرفين المسلمين لنشر الرعب بين الأميركيين. فالجمهوريون التابعون لترامب بالتحديد استخدموا هذه الهجمات كفزاعة لتخويف الأميركيين من السماح للمهاجرين من القدوم خوفا من تسلل الإرهابيين بينهم.
فمثلا سكان ولاية اركنسا لا يهمهم ما يحصل في سوريا التي على الأغلب يصعب على معظم سكان الولاية إيجادها على الخارطة. وهكذا هي حالة معظم الولايات الأميركية. بالإضافة الى ذلك، كان هناك من يهمس أن الكونغرس سيفصل الرئيس أوباما إذا أمر باستخدام القوة العسكرية بدون اذن الكونغرس لإنقاذ المدنيين السوريين. الرئيس أوباما، كأول رئيس من أصول إفريقية، وبرغم منصبه كرئيس أقوى دولة بالعالم، لم يستطع أن يفعل شيئا بعد أن صوت أغلبية أعضاء الكونغرس حينها ضد التدخل عسكري. في نهاية المطاف يبقى العامل الأول المحرك للسياسة الأميركية هي العوامل الداخلية وليس الخارجية، إلا في ما ندر.
تحدثت سامانثا باور أيضا عن تجربتها كامرأة على المسرح الدولي. تواجه النساء بشكل عام حول العالم أنواع مختلفة من التمييز، فعندما حصلت باور على وظيفتها في البيت الأبيض في مجلس الأمن القومي لاحظت أن مرتبها أقل بخمسة الاف دولار عن زميلها في منصب مماثل. عندما سألت باور عن سبب الفرق في الراتب، اعتذر المسؤولون عن “الخطأ” وتم تصحيحية. في الأمم المتحدة، شعرت باور بالتمييز الذي عانت منه زميلاتها بشكل أكثر حدة، ففي حين أن جنسية باور الأميركية حمتها من تمييز أكبر إلا انها تعاطفت مع زميلاتها اللاتي لم يتمتعن بهكذا حماية فعانين من تهميش كبير. التمييز ضد المرأة في الأمم المتحدة تفضحه حقيقة أن الولايات المتحدة هي الوحيدة من بين جميع الدول الأعضاء الدائمة العضوية التي عينت امرأة كسفيرة منذ بدأت الأمم المتحدة في منتصف القرن الماضي.
في النهاية يشعر القارئ بصدق نواياها المثالية والتزامها بهذه المثالية التي بررتها ببراعة. فبالنسبة لها أي جهد قد يؤدي إلى احتمالية تحسين أوضاع ولو أفراد قلائل فإنه يستحق العمل. وتذكر باور قارئيها أن التاريخ أثبت مرارا وتكرارا أن “جهود بضعة أفراد بإمكانها أن تغير مسار مجتمعات ودول، بل وبسرعة فائقة”. وعليه فإن الأفراد عليهم واجب جلب التغيير الذي يطمحون في إنجازه. وخصوصا أن الرؤساء ليسوا الوحيدين القادرين على التغيير. في الوقع، وبالرغم من مناصبهم، لا يستطيع الرؤساء في العالم الديموقراطي القيام بالتغيير بدون دعم من الآخرين.
في ختام كتابها تطرقت باور إلى المهمة الأهم والأصعب للولايات المتحدة ألا وهي تثبيت أسس الديموقراطية في الداخل والخارج. فأمام حملات الجمهوريين لعرقلة التصويت، الفساد المالي وتدخل الأموال في السياسة، الإقصاء الاجتماعي والفجوة الهائلة في مستوى المعيشة، تواجه الديمقراطية معضلة حقيقية. ولكن، من وجهة نظر باور، لا يجب على الولايات المتحدة أن تتنظر تحقق كل هذا لمساعدة العالم، بل عليها استخدام الدبلوماسية لمساعدة الآخرين دون استخدام القوة العسكرية والتي نددت بها. بالنسبة لها فالأدوات الأكثر إنسانية وفعالية تعتمد على نشر المثل العليا وأدوات مثل التنمية البشرية، الاستثمار والمساعدات الاقتصادية والمفاوضات الدبلوماسية، والتي يحتوي كتابها على أمثلة ناجحة عديدة منها. يبدو أن الحظ حليف دائما لباور فقد تم تعيينها كرئيسة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية والتي يوعز اليها إنفاق مليارات الدولارات على مشاريع تنموية.
ويا ترى، ماذا لو كان هناك حرية رأي وتعبير في العالم العربي. عما كان سيفصح المسؤولون في مذكراتهم؟