سُها الملائكة: ريادة الشعر الحر لشقيقتي نازك فقصيدتها «الكوليرا» نُشرت قبل قصيدة السياب
عن نازك الملائكة الرّائدة، المتمرّدة والأرستقراطية المتفوّقة
النشرة الدولية –
اليمامة – الحوار – كتبت ماجدة داغر
في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل رائدة «قصيدة التفعيلة» أو «الشّعر الحر» كما اصطلح على تسميته، الشاعرة العراقية نازك الملائكة، لا تزال هذه الرائدة في دائرة الضوء وفي ذاكرة الثقافة، وهي المرأة التي شقّت طريقها وسط الصعاب، لتكون الشاعرة المؤثّرة في الوسطين الأدبي والنسوي. ولا تزال تصدر عن شعرها الكتب النقدية آخرها كتاب «نازك الملائكة متنا شعريا أنثويا – مستويات الصوت والخطاب» الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة – أكبر مؤسسة نشر حكومية في العراق- للناقد العراقي محمد صابر عبيد.
الشاعرة التي التحقت بجامعة برنستون الأميركية في عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من الجامعة التي لم يكن في نظامها قبول البنات الإناث ولم يكن قانونها يبيح دراسة المرأة فيها، إلا أنها تجاوزت ذلك النظام وأصبحت أول طالبة أنثى تدخل تلك الجامعة.
الشاعرة الثائرة على التقليد الشّعري، كانت أول من تمرّد على القصيدة العمودية التقليدية وجعلتها حرًّة بلا قافية موحّدة وحرّرتها من القوالب الكلاسيكية لتكون متفاعلًة مع روح العصر، وذلك ربما بتأثير من جوّ التحرر الذي كانت تعيشه في كنف عائلة منفتحة ووالد يسمح لها بمجالسة أصدقائه من الأدباء والشعراء.
نازك الملائكة التي شبهها أحد النقّاد بالأخوات برونتي اللاتي برزن في الأدب البريطاني ونلنَ شهرة واسعة (نقلًا عن شهادة شقيقتها سُها في كتاب «الرائدات في طباعة أول ديوان شعريّ نسائيّ عربيّ فصيح» للباحثة المغربية فاطمة بوهراكة).
تنحدر نازك من عائلة «الجلبي» الأرستقراطية، والملائكة هو اللقب العائلي الذي أطلقه على العائلة الملائكية بسبب نمط عيشها الهادئ ورصانتها ونبلها، الشاعر العراقي عبد الباقي العمري.
الأخت الصغرى للشاعرة، الأديبة سُها الملائكة خصّت مجلة «اليمامة» بحديث صحافي هو الأول لها على الإطلاق، عن شقيقتها والعائلة والذكريات وعن الريادة الشعرية المتنازع عليها بينها وبين الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب وعن لغز دفنها في مصر وليس في وطنها العراق:
تتحدث سُها الملائكة بشغف وحب كبيرين عن شقيقتها الشاعرة والأديبة الكبيرة، خصوصًا أن نازك هي من تولّى تربيتها والاهتمام بها عندما مرضت الوالدة مرضًا شديًدًا لمدة عامين، فتعلقت بها تعلقًا كبيرًا، «وقررت أن توجهني كما تشاء. بدأت نازك بتلقيني الشّعر وكان لي من العمر أربع سنوات، تقول سُها. وكانت بداية الرحلة الشعرية لي مع قصائد لكبار الشعراء مثل: محمود حسن إسماعيل، عمر أبو ريشة ومحمود طه التي حفظتها عن ظهر قلب وأنا في هذه السنّ. في السابعة من عمري علمتني القراءة وبدأت قراءة الأديب الكبير توفيق الحكيم بعدما أعطتني كل مؤلفاته، ثم علمتني الخط والموسيقى والغناء، لذلك أنا مدينة لنازك بحياتي كلها».
قصيدة «إلى أختي سها» تعني لها الكثير، خصوصًا أن نازك كتبت القصيدة عن أختها منذ لحظة ولادتها حتى عمر عشر سنوات، وتحدثت فيها عن تفاصيل هذه السنوات. كانت نازك تعشق الموسيقى وتعزف على العود «كانت تعزف لي على العود كي أهدأ عندما كنت أبكي وأنا صغيرة، تضيف سها، وهي كانت رقيقة جدًا وحالمة».
تصف الأديبة سُها الملائكة المجتمع الثقافي بالذكوري، وتحديدًا بما يخص النزاع القائم منذ سنين طويلة حول الريادة في شعر التفعيلة بين نازك الملائكة والشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، فتحسم سها هذا الجدل لصالح نازك قائلةً: « زارنا السيّاب في منزلنا مرتين وكان برفقة الأستاذ محمد شرارة. كان يقرأ لنا شعره ولديه طريقة خاصة في قراءة الشعر. وفي المرتين لم يفتح هذا الحديث الجدلي حول الريادة. ولكن ما أؤكده هو أن نازك نشرت قصيدتها «الكوليرا» (وهي القصيدة التي وسمت نازك بالرائدة في الشعر الحر) في «مجلة العروبة» البيروتية في 1/12/1946، ونازك حسمت هذا الجدل بقولها إنها بعد نشر القصيدة في بيروت وصلت العراق في التاريخ نفسه. أما بالنسبة للسيّاب، فهو يقول بنفسه إنه نشر ديوانه «أزهار ذابلة» الذي يتضمن قصيدة «هل كان حبًا» (موضوع جدل الريادة)، في القاهرة ووصل إلى العراق في 15/1/1948 أي بعد شهر ونصف من صدور قصيدة «الكوليرا». وهذا يفسر الأولوية في النشر لصالح نازك، ولكن مجتمعنا الثقافي يرفض أن تسود المرأة أو أن تكون رائدة في أي مجال. لذلك يعدون السياب رائدًا وليس نازك».
في السياق نفسه تستدرك الأديبة سها الملائكة لتضيف: «ثمة أمر مهم في إطار الريادة، وهو التصريح الأخير للشاعر السيّاب اطّلعت عليه يقول فيه: «في المحصّلة لا أنا ولا نازك من روّاد الشعر الحرّ، بل هو الشّاعر علي أحمد باكثير الذي نظم شعرًا حرًّا قبلنا»، وبذلك، تتابع الملائكة، تخلٍّ تام عن الريادة التي نُسبت إليه ظلمًا. وهو لا يحق له سلبها من الشاعرة المبدعة نازك التي اعترف بريادتها القاصي والداني».
وعن المنزل الشعري العريق وبيت العلم والأدب كانت الباحثة المغربية والشاعرة فاطمة بوهراكة قد كشفت للمرة الأولى في كتابها «الرائدات في طباعة أول ديوان شعري نسائي عربي فصيح» الذي صدر في المغرب العام الماضي، عن الشعرية في عائلة الملائكة من الجدة إلى الأم فالحفيدة نازك. وعن هذا الموضوع تشرح سُها: «جدتي لأمي هداية محمد حسن الكبّة كانت شاعرة ولها قصيدة عن الحجّ، بدأت بكتابتها منذ اللحظة الأولى لمغادرتها إلى حين عودتها من الحجّ، أما بالنسبة إلى أمي هي الشاعرة أم نزار الملائكة (سليمة عبد الرزاق الملائكة)، ولها ديوان مطبوع، طبعته نازك بعد وفاتها في الستينات وهو «أنشودة المجد». كانوا يطلقون على والدتي لقب «شاعرة فلسطين» لدفاعها عن القضية الفلسطينية. فأهدت أختي نازك الديوان إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وتركت لهم حرية التصرف بالديوان، وهو يضمّ قصائد معظمها عن فلسطين، إلى أخرى عن حياتها وعن الإنسانية والمحبة. وصولًا إلى الحفيدة وهي نازك كما هو معلوم».
تضمّ العائلة المثقفة العديد من الأسماء الشعرية والأدبية بدءًا بالوالد رجل العلم والأدب الذي اهتم بدراسة الفقه والمنطق واللغة العربية والنحو، وله مؤلفات أدبية أهمها «دائرة معارف الناس» وهي دراسة وثائقية في عشرين مجلدًا. تجيب الملائكة عن السؤال حول غياب أسماء مبدعة من العائلة في ظلال نخلة باسقة كنازك الملائكة التي يظلّل اسمها العائلة: «في العائلة أسماء كبيرة في عالم الأدب والعلم والثقافة بالإضافة إلى الوالد، أخي نزار الملائكة الذي عاش في لندن وألمانيا وهو مستشرق يكتب الشعر ويتقن عدة لغات، وكان يرسل لي رسائل بعناوين من لغات مختلفة، حتى أنه مرة أرسل لي عنوانًا بالخط المسماري».
وتضيف الملائكة عن الأعلام المهمة في العائلة: «خالي الدكتور جميل الملائكة أيضًا شاعر، كان يزورنا في منزلنا ويجلس مع أخي ونازك وينظمون شعرًا مشتركًا، نُشر جزء من هذا الشعر في ديوان «أنشودة المجد».
عُرفت نازك الملائكة بثقافتها العالية التي استقتها من مكتبة والدها العامرة بعيون كتب الأدب، كما تميزت بتعليمها العالي، فبعدما أنهت دراستها في بغداد، توجهت إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث نالت الماجستير من جامعة برنستون الأميركية، والتحصيل العلمي في أميركا كان أمرًا نادرًا آنذاك. ثم عملت لسنوات طويلة في التعليم في جامعات بغداد والبصرة والكويت. كما أحبت الموسيقى فتعلمت العزف على العود، ودرست فنون المسرح والإلقاء في معهد الفنون الجميلة على يد الفنان الشريف محيي الدين حيدر، وكان هدفها من دراسة التمثيل إتقان قراءة الشّعر، توضح سُها، «كما اهتمت بدراسة اللغات كاللاتينية بالإضافة إلى إتقانها اللغة الإنكليزية. وحرصت على تعلم اللغة الفرنسية، فكانت تتنقل كالنحلة بين عوالم من الأدب والعلم والثقافة.»
عن نازك الأخت والإنسانة الرقيقة تتحدث سها:»كانت شخصية جذابة وساحرة. وكانت من النوع الصامت، فهي لا تتحدث إلا قليلًا، ومن ينظر إليها يشعر أنها حالمة طيلة الوقت. كانت تدخل في لحظات تجلّي عندما تكتب الشّعر، فتدخل إلى غرفتها وكانت تضع لافتة كُتب عليها: مشغولة رجاءً لا تقاطعني، فكنا ننسحب فورًا عند رؤية اللافتة. كما كانت ترفض الكلام بسوء عن الآخرين، وإذا كانت موجودة في مجلس ودار حديث عن أحد من العائلة أو عن أي شخص كانت تطلب منا أن نغيّر الحديث أو تنسحب من الجلسة إلى غرفتها».
ما ليس معروفًا عنها أنها كانت مرحة وتحب الظُرف، لأن الشاعرة عُرفت بتشاؤمها وشعرها الحزين. «كانوا يسمونها «البكّاءة» تضيف شقيقتها، لأنها كانت دائمًا حزينة، ولكنها كانت مرحة في الوقت نفسه. وذلك له ارتباط بطفولتها ومكان إقامتها. فأنا وأختي لبنى التي تكبرني بقليل ولدنا في حيّ «الكرادة» في بغداد، لكن نازك والعائلة سكنوا في منطقة تدعى «العاقولية» حيث يوجد حاليًا نصب الشاعر معروف الرصافي. عاشت في بيت قديم، وكانت ذكريات هذا البيت تنعكس على حياتها وشعرها. فكانت تتذكر عمتي التي كانت ترتدي الأسود دائمًا وهي تغزل».
عشقت نازك الملائكة السفر وكانت لها أسفارإلى دول عدة، لكن الغريب أن يكون مثواها الأخير في مصر وليس في بلدها العراق. ما سبب وجود قبرها خارج موطنها الحبيب؟ تجيب سُها: «في حرب 1990 كانت مريضة ورافقت والدتي في سفرها إلى لندن، أو رحلة الموت كما نسميها، حيث أجرت والدتي عملية في لندن كانت السبب في وفاتها. عاشت نازك لحظات أمي الأخيرة، ما انعكس سلبًا عليها وأثر فيها جدًا. وعندما عادت إلى العراق كانت منهارة ومريضة جدًا، فعرضت نفسها على طبيب نفسي وعالجها بأدوية مهدّئة، ما دفع الحكومة العراقية حينها أن ترسلها إلى مصر للعلاج، لأن العراق كان تحت حصار ولم يكن هناك أدوية. سافرت إلى مصر وعاشت هناك مع ابنها البراق إلى أن توفيت هناك رحمها الله. المستغرب أن ابنها يقول أنها أوصته أن تُدفن في مصر وأنا لا أصدقه. فكيف لنازك المتعلقة بوطنها تعلّقًا يفوق الوصف، ولدي رسائل منها تصف فيها حزنها في غربتها بعيدًا عن العراق وهي المُحبة لأهلها ووطنها ما سبب لها مرضًا شديدًا. فهي سافرت في المرة الأولى إلى الأردن للعلاج ثم إلى مصر وأوصته، كما يقول، أن تدفن في مدينة 6 أكتوبر».
ويبقى دفنها في مصر بعيدًا من العراق لغزًا، ولم تصدق شقيقتها سها صحة الوصية التي أملتها على ابنها البراق.
*هامش: بعض الصور والمعلومات من كتاب «الرائدات في طباعة أول ديوان شعريّ نسائيّ عربيّ فصيح» للباحثة المغربية فاطمة بوهراكة.