‘لوكاندة بير الوطاويط’ تبقي أحمد مراد عالقا في متاهات السرد
يستحق أحمد مراد أن نتابعه، وأن نكتب عنه. هو روائي موهوب بالفطرة، تمر موهبته عبر أدوات سردية كثيرة منها لغته وقدراته الوصفية ووعيه الكبير بطرق السرد ودروبه.
وفوق كل هذا أنه لا يعد الرواية مجرد حكاية مكتوبة، بل هي فهم كامل للحقبة الزمنية للحكاية، إلمام بكل تفاصيلها، ثم توظيف هذه التفاصيل توظيفا سلسا لا تبدو فيها نتوءا ومباهاة بالمعرفة.
مع ذلك سيحتل أحمد مراد مكانا متوسطا بين طبقات فحول الروائيين المصريين أو العرب. وفي هذا يبدو لي حالة محيرة، فهو روائي متمكن، لكن منتجه الأخير لا يكافئ تمكنه.
قرأت أغلب أعماله، وكتبت عن روايته “موسم صيد الغزلان” وخرجت منها بالانطباع نفسه الذي خرجت به من “لوكاندة بير الوطاويط”، أن هناك فرقا بين موهبته ومنتجه الأخير دائما، لعله فرق بلغ ذروته في هذه الرواية.
أحمد مراد مولع بعالم السحر والشعوذة، غارق في أسئلة الدين الكبرى، قارئ جيد للتاريخ، لديه خيال يحاول أن يربطه بالعلم. لكن لديه مشكلة وهو يختار “ثيمته” الروائية. مشكلة ظهرت في كل الروايات التي قرأتها له.
والثيمة الروائية ليست هي الفكرة الأساسية التي أقيمت عليها الرواية، هي شيء أبعد غورا وأكثر تعقيدا. بعض الناس يخلط بين “الثيمة” والفكرة الأساسية للعمل، وهما موضوعان يجب فك الاشتباك بينهما، فالفكرة الأساسية هي الهيكل الذي تبنى من خلاله “الثيمة”، مثلما نجد هنا في “لوكاندة بير الوطاويط” التي “أرخ فيها مصور الموتى “سليمان السيوفي” لسنوات ما قبل إنشاء جهاز بوليس منظم، حين تم تكليفه بتقصي الحقيقة حول مصرع أحد الباشوات بطريقة شنيعة، وبخبرته الموروثة في تحليل مسرح الجريمة يكتشف أن الوفاة وراءها قتل عمد، وفاعل ترك مع ضحيته تذكارا، قبل أن يكتشف أن تلك الجريمة ليست سوى الجريمة الأولى في سلسلة من الاغتيالات، أدرك دون مجهود أنها ستنتهي به.” وكما تبدو الفكرة، فإنها مشوقة، وتعد بقراءة ممتعة للعمل. لكن أحمد مراد حين أراد أن يكسوها لحما ودما وأعصابا، أي ينقلها إلى أن تكون ثيمة، فإنه حولها إلى عمل مجهد ممل في قراءته. وهذا ظهر في أكثر التعليقات على العمل في موقع “goodreads”. فما الثيمة؟ وما قيمتها السردية؟
و”الثيمة” تشير، كما يقول معجم المصطلحات الأدبية، “إلى المعنى المركزي والأكثر عمقا للعمل المكتوب. يكتب المؤلفون ثيمة أعمالهم ويسمحون للقراء بأن يصلوا إليها ويفسروها ويطوروها ويحللوها ويقدموا فهما أفضل للعمل ويطبقوا هذا الفهم على أعمال أخرى بوصف هذا العمل وسيلة جيدة لإدراك أفضل لهذا العالم”.
وبهذا التصور البسيط تتجاوز الثيمة فكرة العمل الأساسية، لتحمل في داخلها إشارات وعبارات ومواقف وصراعات ورؤى للعالم تتجاوز الفكرة التي أقيمت عليها. الثيمة هي مجمل العمل بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة. وهي إحدى المشكلات الكبرى لعلم السرد. فما الذي يجعل عملا يتناول فكرة معينة يرتفع إلى السماء، بينما يقبع عمل أخر يتناول الفكرة نفسها في القاع؟ وسؤال آخر؛ ما الذي يجعل لثيمات معينة جاذبية وقدرة على البقاء والخلود، بينما تنزوي ثيمات أخرى، وتختفي بمرور الزمن. في علم السرد سنجد إجابات كثيرة على السؤال الأول تتناوله من زاوية الشخصيات واللغة والصراع وغير ذلك، وهي إجابات قد تبدو واعدة، لكنها مع ذلك قاصرة عن الإحاطة بالمشكلة، بينما يظل السؤال الثاني عصيا على التناول العلمي النقدي المنضبط.
فماذا فعل أحمد مراد حين نقل الفكرة المشوقة إلى “ثيمة” روائية في “لوكاندة الوطاويط”؟ لقد أثقل الفكرة بشخصيات تحتاج إلى مجهود مضاعف لفك طلاسمها مثل هجين القمر، وعنتر الكائن الخرافي ذي الأجنحة، والجارية قشطة التي اشتراها، ثم اكتشف أن لها ذيلا قصيرا، وأثقلها بأحداث تحتاج إلى المجهود نفسه، مثل قتله لأمه ودفنها واقفة في جدار الغرفة التي يسكنها باللوكاندة، وأثقلها بتفاصيل كثيرة في وصف الشخصيات والأماكن والعلاقات. قد يقال إن كل هذا رموز يجب على القارئ أن يفهمها ويفك طلاسمها. لكن القارئ، أي قارئ، لا يفعل هذا إلا إذا وجد أن العمل يتسم بعمق فكري يستحق معه المحاولة، اما إذا وقف أمام عمل يحاول فيه مؤلفه الادعاء بالعمق، وهذا يظهر من صفحاته الأولى، فإنه يكف عن المحاولة، وربما يكف عن مواصلة القراءة نفسها، وهذا ما فعله بعض من راجعوا “لوكاندة بير الوطاويط”، وكتبوا عن تجربتهم معها.