“حزب الله” يتدحرج من قوّة الى عبء
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

في رائعته “العجوز والبحر” يضع ارنست همنغواي كلمات “بالغة الدلالة” في فم الصيّاد الذي انهكته محاولاته الحثيثة لسحب السمكة الضخمة التي علقت بصنّارته.

يقول هذا الصيّاد لنفسه، وهو في أوج إرهاقه وجوعه وعطشه، عن السمكة التي تقاوم الصنّارة، بكل ما تمنحها إيّاه “غريزة البقاء” من صلابة:” دعها تتوهّم أنّني أقوى ممّا أنا عليه، فيصبح الأمر كذلك”.

لقد نجح همنغواي في تجسيد هذه المقولة التي لها حضور طاغ في العلوم السياسية كما في التقنيات الدعائية، اذ إنّ كلّ طرف، ومن أجل إقناع الضعفاء والمترددين والوصوليين والانتهازيين، بتنصيبه زعيماً لهم، يبذل جهوداً جبّارة لإقناعهم بأنّه الاقوى والأبقى.

ولا يشذ لبنان عن هذه الوضعية، بل هو يعيش في صلبها، إذ إنّ جميع اللاعبين والمراقبين والمهتمين، يتعاطون مع “حزب الله” على أساس أنّه القوة التي لا يمكن إلّا الخضوع لها، وهم أمامه في وضعية سمكة همنغواي التي تتوهّم أنّ الصيّاد العجوز يملك قوة كاسحة ماحقة.

وبات كثير من المراقبين يستشرفون القرارات التي سوف تتّخذها قيادات سياسية من طريقة تقييمهم ل”حزب الله”، فهم عندما يستخفّون بقدرته يعني أنّ القرارات المنتظرة منهم لن تصب لمصلحته، ولكنّهم إن أرادوا العمل بمشيئته، راحوا يتحدّثون عن قدراته الحاسمة.

وفي الكواليس، لا يتحدّث، حتى أقرب المقربين من “حزب الله” لا عن “حنكته” ولا عن “ذكائه” ولا عن “صوابيته” ولا عن أيّ ميزة أخرى. الجميع يختصر كلماته بالإشارة الى قدرات “حزب الله” الأمنية والعسكرية، فيشيرون بالبَنان الى اغتيالات هنا والى عمليات عسكرية هناك.

وهذا يعني أنّ “حزب الله” لا يُمسك بالقرار اللبناني، إلّا بفضل الترهيب.

 

ولا يحتاج “حزب الله” الى برمجيات “بيغاسوس” التجسسية ليدرك هذا، ويكفي أنّه، في الآونة الأخيرة، حوّل “الرعب” الى “شعار مقدّس”، حين عمد الى رفع صور تجمع شهداءه الثلاثة: قاسم سليماني ( ايراني)، أبو مهدي المهندس( عراقي) وعماد مغنية( لبناني).

صور ذيّلها بكلمتين ضخمتين: “دام رعبكم”.

و”الرعب” الذي يرفع “حزب الله” لواءه عالياً، يحوّله الى “حافظ للحياة” والى “مانح للمناصب” والى “موزّع للغنائم”.

وهذا يعني أنّ كل من يخشى على حياته ويلهث وراء طموحه ويمنّن النفس بالمكاسب، يجهد لاسترضاء “حزب الله”، وفي حدّ أدنى لعدم إغضابه.

اذن استراتيجية “حزب الله” واضحة، فهو يستعمل “الرعب” لتصوير نفسه قوة كاسحة.

وهذا ما خبره اللبنانيون، مراراً وتكراراً، فهم كلّما ساروا بنهج يثير استياء “حزب الله” خرج عليهم هذا الحزب، بأدواته المملوكة أو “المستأجرة”، وهدّدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

ولكن إذا حصد “حزب الله” وضعية مريحة في تسلّطه على غالبية الطبقة السياسية اللبنانية التي تتأرجح بين الترهيب والترغيب، فإنّه يخسر هذه الوضعية لدى غالبية اللبنانيين، فهو تحوّل، بنظرهم من قوة كاسحة، الى عبء ثقيل.

هو عبء على اللبنانيين الذين يريدون التخلّص من الفاسدين ومن الفاشلين ومن الانانيين الذين اجتاحوا الحياة السياسية.

وهو عبء على اللبنانيين الذين يتطلعون الى قيام دولة، وقد حفلت كتابات الانتلجنسيا اللبنانية بهذا الأمر، حتى سجّل “عميدها” الدكتور أنطوان منسى، قبل أيّام ذروتها، حين كتب في مقالته “النهارية” التي جرى توزيعها على نطاق واسع في البلاد، عن هذه المسألة بوضوح: “إنّ مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة وكلّ الإصلاحات هي قضايا رديفة، ولا معالجة عادلة وعميقة لها، من دون دولة تمتلك كامل صفاتها المسماة ملكية: احتكار القوة المنظمة، واحتكار العلاقات الدبلوماسية، وفرض الضرائب وجبايتها، وإدارة السياسات العامة”.

و”حزب الله” عبء على علاقات لبنان العربية، فنهجه كذراع من أذرع “الجمهورية الاسلامية في ايران”، سبّب للبنان مشاكل عميقة وجوهرية مع دول طالما وقفت الى جانبه، عندما اسودّت أيامه، كما هي عليه الحال مع المملكة العربية السعودية التي يحاول الفرنسيون والاميركيون إعادتها الى لبنان، ولو عبر بوابة توفير ما يلزم من دعم للمؤسسات العسكرية في البلاد.

و”حزب الله” عبء على بيئته الطائفية التي بدأت تعبّر عن ضيق أحوالها منه، بتحويل شعارات الأمين العام للحزب حسن نصرالله وسلوكيات المنتسبين اليه من سياسيين ورجال دين، الى طرائف شعبية ساخرة.

وباستثناء بعض “المسيّسين” لم يعد كثيرون ينتظرون اطلالات نصرالله، فالرجل الذي كان، حتى الأمس القريب، “الأكثر جذباً” تحوّل الى الأكثر استفزازاً.

والحزبيون الذين يعرفون ضعف سياسييهم في التعامل مع “حزب الله” قد تجاوزوهم، بكل ما يتصل ب”حزب الله”، فجمهور “المستقبل” بموضوع “حزب الله” يذهب أبعد بكثير من قيادته وكذلك حال جمهوري “التيار الوطني الحر” و”الحزب التقدمي الاجتماعي”، على سبيل المثال لا الحصر.

واللبنانيون غير المحازبين، بعدما كانوا قبل “ثورة ١٧ اكتوبر” منقسمين في تقييمهم ل”حزب الله” أصبحوا “شبه موحّدين” على توصيفه بالعبء الوطني الكبير.

ولم ينفع اغتيال المناضل لقمان سليم في ردع هذه الحالة الشعبية التي يخشاها “حزب الله”، بل وسّع رقعتها، بحيث بات عليه ليبقى هانئاً أن يدخل الى كل بيت، اذ إنّ رسائل الترهيب التي تُثمر عند السياسيين، اتضح أنّها لا تجدي نفعاً مع الحالة الشعبية.

إنّ تحوّل “حزب الله”، في نظر غالبية اللبنانيين، الى عبء ثقيل، ونظراً لأدوات الرعب التي يملكها، لا يستدعي المسارعة الى استنتاجات مهمة لمصلحة لبنان، ولكنّها بداية من شأنها أن تسمح للبعض أن يكتشف انّ هناك ضوءاً في آخر النفق المظلم الذي اضطر الجميع أن يدخلونه.

إنّ “السمكة السياسية” اللبنانية لا تزال حالها مثل حالة سمكة همنغواي، ولكنّ “السمكة الشعبية” أدركت أنّ الصيّاد، في حقيقته، مجرّد رجل نخرته الشيخوخة، ويراهن على استسلامها، حتى لا تستطيع الافلات من “صنّارته” والنجاة بنفسها منه، بداية ومن أسماك القرش التي تنتظر انتصاره لالتهامها.

وهذا الوعي، بغض النظر عن نتائجه السريعة، إنجاز كبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى