الأهواز تشعل الثورات في إيران والمشرق من جديد
بقلم: وليد فارس

النشرة الدولية –

في واشنطن، يُعدون على الأصابع المسؤولون الذين يعرفون شيئاً عن الأهواز  أو الأحواز، أما في الولايات المتحدة، فلا أحد تقريباً قد سمع بها، أو يعرف موقعها، أو طبعاً يعرف قضيتها، إلا أننا كنا على اطلاع على حقائقها التاريخية منذ عقود، وتابعنا نضال حركاتها منذ سنوات، واطلعنا على وثباتها الشعبية الأخيرة، بخاصة خلال خريف 2019، نحن وقليلون آخرون في العاصمة الأميركية عارفون بهذا الملف، ومعظم أصحاب القرار والرأي غير عارفين، لذا لم يسمع الرأي العام الأميركي بقضية هذه المنطقة وسكانها، و لو أن جزءاً لا بأس به من الأميركيين يدرك، وبخاصة منذ الثورة الخضراء في يونيو (حزيران) 2009، أن هناك معارضة شعبية واسعة للنظام في إيران.

إذاً، تنفجر انتفاضة الأهواز الجديدة هذا الصيف في جو جديد للأوضاع الإقليمية وللعلاقات الدولية، وبظل وجود إدارة أميركية تدق طبول العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. وفي هكذا معادلات صعبة، ماذا ننتظر؟ وإلى أية حدود؟ كيف النجاح؟ ومن سينتصر؟

مسألة تاريخية

الجذور التاريخية لقضية الأحواز هي أيضاً غير مفهومة جيداً في الولايات المتحدة كما كانت ملفات أخرى، كقضايا “دارفور”، وكردستان، و”البلوش”، وغيرها، وبدأت الأوساط المعنية ودوائر المسؤولين ومكاتب الكونغرس تهتم بالمسألة نظراً لما يمكن أن يكون لها تأثير في الوضع في إيران ككل، بالتالي على المنطقة والسياسة الخارجية الأميركية الحالية، وبالطبع كغيرها من القضايا الداخلية، والإثنية، والقومية، والجيوسياسية، فمسألة الأهواز تمتد إلى قرون من التاريخ، وتتداخل فيها المعادلات والقراءات من قبل الأطراف التي لها مصالح مباشرة في مستقبل هذه المنطقة وشعبها.

هذه المنطقة تحت اسم الأهواز، أو الأحواز أو عربستان التي تسميها الدولة الإيرانية “خوزستان”، لها تاريخ طويل عبر الإمبراطوريات، بخاصة الفارسية والخلافة العربية الإسلامية، ومكوناتها تضم عرباً، وفرساً، وإثنيات أخرى، والمكون الناطق بالعربية يتموقع في وسط تلك المنطقة المعروفة بالأهواز، الحركة الأهوازية تعتبر أن القضية هي قومية، إذ إن الأهواز تم اجتياحها من قبل الدولة المركزية الإيرانية، بالتالي، فهي تطالب بحق الاعتراف وتقرير المصير.

المعارضة الإيرانية الوطنية تعتبر أن الأهواز هي جزء من منطقة “خوزستان”، وهي إقليم من إيران، وتؤمن الحركة بضرورة إعطاء الأهوازيين كامل حقوقهم بالمواطنة مع احتمال إقامة لامركزية موسعة تعطي السلطات المحلية قدرات كبيرة اقتصادياً وحقوقاً دستورية، طبعاً هناك فوارق كبيرة بين المطالب القومية الأهوازية، ومطالب المعارضة الإيرانية الوطنية، وهي فوارق لا يمكن معالجتها بعمق في ظل النظام الخميني القائم، إذاً، ما يجمع الحركتين، الأهوازية والإيرانية الوطنية، هو المصلحة المشتركة الضاغطة، وهي التحرر من قمع السلطة الحاكمة في طهران. ولكن السؤال هو: كيف؟

المعارضة الإيرانية قائمة

من الواضح أن قوى المعارضة الإيرانية، الداخلية والخارجية، باتت موجودة ومتحركة، والأهم أن قسماً منها له اعترافات سياسية عدة في الكونغرس والبرلمان الأوروبي، ودخلت هذه المعارضة التي تضم أكثرية من الإيرانيين الفرس وعناصر من الأقليات والإثنيات الأخرى كالأكراد، و”الأذر”، و”البلوش” والعرب، إلى الساحة الدولية بعد حركات احتجاج عدة أهمها تاريخياً الإضرابات الطلابية الكبرى في 1999، والثورة الخضراء التي تفجرت في يونيو 2009، وصولاً إلى المسيرات الكبرى التي اكتسحت إيران في خريف 2019، فلقد أثبتت المعارضة الإيرانية، على تنوعها، من الداخل إلى الخارج، من أنصار الشاه، إلى “مجاهدي خلق”، إلى كل المجموعات الليبرالية والقومية الإيرانية، أنها عامل ثابت لن يعود إلى الوراء، وإن عنى هذا الواقع شيئاً، فهو أن النظام الإيراني ليس أزلياً، إذ إن الصدمات عبر العقود بين المعارضة والنظام، باتت أكثر توتراً، والمجتمع المدني الإيراني أكثر غضباً وشجاعة في تعبيره.

وفي الوقت ذاته، باتت الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية أكثر ضغطاً على الناس، بكلام ملخص، الانتفاضة الكبرى على السلطة، إذا حللنا الوضع النفسي العام في إيران، هي آتية لأنها لم تحصل بعد The Big One ، إلا أن أحداً لا يمكنه التنبؤ بفتيلها، وظروفها، واحتمال نجاحها، لأن أهم عامل فيها سيكون قناعة الناس في إيران أن هذه الانتفاضة الشاملة ممكنة، ومن أهم ما يثبت هذه الإمكانية هو ما يراه المواطنون على الأرض.

مجتمعات الأطراف

وهنا يأتي دور مجتمعات الأطراف، بما فيها القوميات الأخرى الأربع، أي “البلوش”، و”الأذر”، والأكراد، والعرب، فكما حصل مع الاتحاد السوفياتي نفسه في نهاية الحرب الباردة، بدأت حركات المعارضة ضد القيادة السوفياتية من أطراف أوروبا الشرقية، أي من “مستعمرات حلف وارسو” من بودابست، فبراغ، إلى “غدانسك” وغيرها، وبعدها انتشر الرفض في جمهوريات البلطيق، لا سيما في إستونيا ولاتفيا، حتى وصلت حرارة المعارضة إلى روسيا نفسها، طبعاً لكل دولة وضعها، ولكل حقبة ظروفها، إلا أن دور قوميات الأطراف في إيران قد يكون شبيهاً بدور الأطراف السوفياتية، ذلك لأن هذه القوميات والمناطق بإمكانها أن تطيل حالة التمرد ربما أكثر من المعارضة في الوسط، فتوفر جواً تعبوياً للمجموعات المعترضة في العاصمة وسائر المدن الكبرى. وهنا يأتي دور الأحوازيين.

انتفاضة الأهواز

التحركات الاعتراضية في الأهواز أو الأحواز ليست بنت الأمس، فهي بشكل أو بآخر قامت ضد السلطة منذ عقود، إلا أن مستوى القمع الذي مارسه النظام ضد هذه المنطقة ومجتمعه المدني فاق في ضغطه أي ممارسة في تاريخ إيران الحديث. فالقمع كان ليس فقط سياسياً وأمنياً، بل ثقافياً ولغوياً، بل أيضاً، مائياً، لذا، فالوثبات الشعبية تعددت في الأهواز ضد النظام، في المدن والأرياف، وفي السنوات الأخيرة، لا سيما منذ 2019، تكثفت التظاهرات والمهرجانات، وفي بعض الأحوال حدثت اشتباكات مسلحة مع أمن الدولة.

في خريف 2019، تصعدت الأمور في الأهواز، وانتشرت التظاهرات، وتعددت الصدامات مع النظام، فتوحدت تحركات الأهواز مع التحركات الإيرانية الشعبية في كامل البلاد، وأخذ الإيرانيون المعارضون روحاً عندما رأوا الأهواز، وكردستان، تشارك في الاحتجاجات، إذ إن المسألة لم تعد فقط في طهران، كما كان الوضع في يونيو 2009، بل مع دخول الأهواز على خط التظاهر، بات المشهد وكأنه موجة عارمة عابرة للمجموعات القومية في إيران، ونجحت السلطات و”الباسدران” في إخماد التظاهرات في إيران في نهاية السنة، مع آلاف القتلى والجرحى في أنحاء البلاد، وايضاً في الأهواز.

وفي الأسابيع الماضية في هذا الصيف، انفجرت المسيرات من جديد في الأهواز رداً على منع السلطات من حصول الإقليم على قدر كاف من المياه للزراعة والشرب. فتحولت الانتفاضة الجديدة إلى “ثورة العطش”، ولكن مع مرور الأسابيع، بات واضحاً أن العطش هو أيضاً للحرية، وكأن القمع المائي فجّر ينابيع من الاحتجاج الوطني والقومي المتجدد، فهبّت جماهير المدن والبلدات للمطالبة بحرية الأهواز من النظام وليس فقط من العطش.

إيران تتأثر بالأهواز

بعد أيام من انفجار الوضع الشعبي في الأهواز، بدأ بعض المناطق والمدن يشهد قليلاً من المسيرات التأييدية للأهواز، والمعارضة للنظام، كما لوحظ بعض التظاهرات في أذربيجان الإيرانية، ومدن فارسية وصولاً أخيراً إلى طهران، فبينما لحقت الأهواز في الماضي بالعاصمة، لحقت هذه الأخيرة بالمقاطعة الثائرة المطلة على الخليج، والتأثير الأهوازي على مناطق إيران بات له وقع على النظام، فاذا تركت القيادة الأمور تتطور، قد تجد نفسها أمام انتفاضة وطنية شاملة أطلقت شرارتها الأهواز، وإذا قررت قمع المقاطعة الخليجية بالقوة العسكرية، قد تواجه مقاومة ميدانية، أي أن يتحول الحرس الثوري إلى “جيش احتلال” في بلده، وفي الأمرين، سوء ومخاطر.

“المستعمرات” تتأثر بإيران

بدورها، “مستعمرات المحور” بدأت تتأثر بعناد الأهوازيين العرب وجيرانهم الفرس، و”الأذريين”، وغيرهم في معارضة نخبة طهران، وبدأ بعض القطاعات الشابة في العراق ولبنان يتهيأ لتحركات مشابهة مستلهمة الصمود الشعبي الأهوازي، ويصادف ذلك مع الذكرى السنوية لفاجعة مرفأ بيروت التي سببها سلاح “حزب الله”، ومع استمرار الاغتيالات الميليشياوية لمعارضي إيران في العراق، فاذا استمرت حركة الأهواز، وتوسعت الاحتجاجات من جديد في إيران، قد تندلع شقيقاتها المدنية في المنطقة من بغداد إلى بيروت.

التأثير على الغرب

هكذا سلسلة بشرية تصيح صيحات الحرية بالعربية والفارسية والكردية، و”الأذرية”، و”البلوشية”، والسريانية، سيكون لها تأثير معنوي ونفسي وسياسي على المجتمع الدولي، وعلى الرأي العام الأميركي، مع الوقت، ما سيكون له نتائج في ما يتعلق بنقاش السياسة الخارجية الأميركية، أيضاً مع الوقت.

مسألة وقت

ولكن السؤال يبقى هو: كم من الوقت؟ إلى متى ستتحمل القيادة الإيرانية هذا الضغط المتصاعد؟ هل ستقبل باتساع نطاق الاحتجاج من الأهواز إلى طهران؟ ومنها إلى بغداد فبيروت؟ أكيد كلا. هل ستنقضّ بعنف أسدي على المسيرات وتلاحق كوادر التحرك الشعبي؟ إذا قارنا بالماضي، نعم سيقوم النظام بذلك من دون شك إذا شعر بخطر الانهيار، وإذ حدث ذلك، هل ستمكث إدارة بايدن مكانها؟ بالمقارنة مع إدارة أوباما في الماضي، نعم. لأن منافع الاتفاق النووي هائلة بالنسبة للوبيات المدافعة عنه، المسألة، مسألة وقت، إلا إذا شجعت الشعوب بعضها البعض للوثوب معاً في مواجهة لا هوادة فيها، ولا عودة إلى الوراء، لا هم عندها إذا فعلت إدارة بايدن شيئاً أم لا، فالأرض ستتكلم وتحسم، والفارق هو في التصميم البشري على اجتياز هذا الحاجز المدمي.

سؤال لا يمكننا الإجابة عنه الآن، التاريخ وحده قادر على الإجابة، فإما أن تتراجع هذه الحركات، وإما أن تراوح مكانها، وإما أن تثب إلى الأمام، سوف نرى. ولكن ما هو واضح الآن هو الدور الذي لعبته جماهير الأهواز الشجاعة، قد تصل إلى الحرية الآن، ومعها سائر مكونات إيران، إما ألا تصل الآن، إلا أنه بات مؤكداً أن الأهواز ستصل، وإيران ستصل، وشعوب المنطقة ستصل، يوماً ما، إلى الحرية.

مسألة وقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button