تونس والرّجة الكبرى
بقلم: د. آمال موسى
النشرة الدولية –
قد يكون المتابعون للشأن التونسي قد شعروا بالمفاجأة بما حصل في تونس الأحد الماضي. ولكن الحال ليس نفسه في تونس: فالأخطاء تراكمت على امتداد عشرية كاملة وتعاظمت في الخمس سنوات الأخيرة بشكل تراكم معها الاحتقان الشعبي. واكتفت الطبقة السياسية بصناديق الاقتراع وتوظيف اللعبة الانتخابية للفوز بالمقاعد والمناصب، مهملة في المقابل تحقيق أهداف ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 التي هي مطالب اقتصادية أولاً وأساساً. وحتى المنجز الحرياتي والحقوقي فقد تم توظيفه بشكل سيئ، وهو تمكين الشعب من التعبير والتنفيس عن مشاكله فقط من دون حلّ تتغير به حياته الاقتصادية.
لقد انغمست الطبقة السياسية ما بعد ثورة 14 يناير 2011 مبكراً في الانشقاقات والصراع على الحكم والغنيمة فتتالت الحكومات والتحويرات الوزارية وتعطلت مؤسسات اقتصادية كبرى يتغذى من مداخيلها الاقتصاد التونسي وميزانية الدولة، وعلى رأس هذه المؤسسات شركة «فسفاط قفصة» التي ظلت معطلة لسنوات، والحال أن توقفها تسبب في خسائر هائلة. بمعنى آخر فإن الطبقة السياسية، حاكمة ومعارضة، ركزت على المعارك والصراعات والتراشق المتبادل ولم تلتف حول الملفات الاقتصادية ولم تلبِ مطالب الشباب ولم تقطع خطوة في مجال التشغيل ومواجهة الفقر بشكليه المتعارف والجديد. وزادت حدة الصراعات السياسية عندما أفرزت صناديق الاقتراع في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 برلماناً متنافراً، حيث فشلت الطبقة السياسية الفائزة في الانتخابات التشريعية في التعايش والعمل وفق استراتيجية التوافق السياسي، بل إن الصراع بينها تحول إلى مشهد يومي يشاهده التونسيون في مجلس النواب ممّا أدى عشرات المرات إلى تعطل الجلسات وإلى معارك مخزية تنقل مباشرة عبر التلفزيون وصولاً إلى العنف بشقيه المادي والرمزي.
فكانت النتيجة أن صورة المنظومة السياسية الحاكمة تهرأت وأصبحت محلّ نقد جارح وعنيف من طرف الشعب والنخب المستاءة من مظاهر الترذيل السياسي الحاصلة. طبعاً أزمة الكورونا عمقت أزمة الطبقة الحاكمة وكشفت عن محدوديتها وعن أن الأمن الصحي للتونسيين لم يكن أولوية مقارنة بالمعارك السياسية والهيمنة وعدم التفاعل مع التحذيرات التي قام بها رئيس الدولة مراراً ولا مع النخب الفكرية والثقافية التي كانت منذ سنوات تناضل من أجل تصحيح الانحرافات والمزالق سواء عبر المنابر الإعلامية أو من خلال تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد كان التفكير في الشأن العام وفي إشباع توقعات التونسيين مسألة لا قيمة لها بالنسبة إلى غالبية الطبقة الحاكمة، حيث «الأنا» والنرجسية السياسية والمصالح الضيقة الحزبية والشخصية هيمنت على الوظيفة المنتظرة من الطبقة السياسية، وهي حل المشاكل وتقديم الحلول الناجعة.
وبأكثر وضوحاً وصراحة فإن المعركة الآيديولوجية طغت على الحقل السياسي التونسي (وقد كنت كتبته مراراً في هذا المنبر) وسط إهمال بالغ للمشاكل السياسية والمجتمعية للتونسيين. أي أن خمرة السلطة أنست الفائزين بأصوات التونسيين أنه تم انتخابهم لمعالجة أزمة البطالة والفقر وتدهور القدرة الشرائية وتعمق مشكل التنمية.
هكذا نفهم احتقان الشعب ورفضه للطبقة الحاكمة، وهو ما تم التعبير عنه في مظاهرات يوم 25 يوليو (تموز) الحالي، الذي يصادف يوم الاحتفال بعيد الجمهورية في تونس. وفي هذا السياق أيضاً نفهم لجوء رئيس الدولة إلى الفصل 80 الذي يسمح له بأخذ تدابير استثنائية، حيث قام بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وتكفله بتكوين حكومة جديدة يكون رئيسها تحت إشراف رئيس الدولة.
طبعاً حصل جدل كبير حول كيفية توصيف ما قام به رئيس الدولة، حيث وصفت حركة النهضة المتضررة الأكبر من هذه التدابير قرارات الرئيس بالانقلاب على الشرعية والمؤسسات والدستور، في حين أن أنصار الرئيس الذين عبروا عن فرحة عارمة ووصفوا ما قام به بأنه تصحيح لمسار الثورة الذي حاد عن الطريق والأهداف، وأنه كان تعبيراً عن إرادة الشعب الذي انتخبه بنسبة أكثر من 70 في المائة.
وموضوعياً فإن ما حصل حتى الآن لا يمكن وصفه بالانقلاب؛ إذ لم تتم اعتقالات ولم تنزف قطرة دم واحدة. كما أن الجيش تم اللجوء إليه لحماية مؤسسات الدولة. والمنتظر من الرئيس الآن هو الإعلان في أقرب وقت ممكن عن موعد الانتخابات المبكرة لتأمين عودة المؤسسات الدستورية للعمل. أيضاً واعتماداً على أن القانون العام تحديداً تتم مقاربته في ظل السياق ومختلف عناصر اللحظة والتداعيات، فإن الحرص على تلبية شروط استخدام الفصل 80 قائمة نسبياً. ونقول نسبياً لأن شروط هذا الفصل لا يمكن أن تتوفر كاملة ولو توفرت فإنّه لا حاجة للجوء إليه أصلاً.
نوضح الفكرة أكثر:
رئيس الدولة لم يحل البرلمان وإنما اكتفى بتجميده لأنه لا يحق له دستورياً فعل ذلك. كما أن الفصل 80 تم وضعه لمعالجة حالات الخطر الداهم وكما نلاحظ فإن توصيف الخطر الداهم وتحديد وجوده من عدمه خاضع للتقدير الذاتي، ولقد رأى الرئيس قيس سعيد أن الخطر الداهم موجود لأن فئات شاسعة من الشعب تحتج وترفض منظومة الحكم، أي أن الهوة بين الشعب ومنظومة الحكم قد اتسعت وتعمقت. هذا مع العلم أنه في الأسابيع الأخيرة بدأت الفئات الشعبية الغاضبة تتحدث عن رفض للمنظومة ككل. أي أن ما قام به الرئيس سعيد الذي قال إنه بعد نفاد صبره وتحذيراته المتتالية قد أخرج به نفسه من بوتقة المنظومة التي بدأ الشعب يرى في أطرافها الكثيرة طرفاً واحداً.
السؤال الآن: هل انتهت كل الطبقة السياسية بما فيها حركة النهضة؟ وهل أن المصالح التي تشكلت وتغلغلت على امتداد عشرية كاملة قابلة للتبخر بمجرد تدابير استثنائية؟
الواضح أن حركة النهضة قد خرجت وقتياً على الأقل من الصورة. والواضح أن الحزب الدستوري الحر قد فقد مصدراً رئيسياً من مصادر وجوده وشعبيته المتمثل في نقد حركة النهضة والمتحالفين سياسياً معها. والأكثر وضوحاً من كل هذا أن فتح ملفات الفساد والإرهاب هو الذي سيعيد تشكيل المشهد السياسي ومسار الانتقال الديمقراطي من جديد. طبعاً إعادة التشكيل ستُحدد جودتها ميكانزمات التفاوض وصراعات الوجود.
فقط من المهم أن لا ينسى التونسيون أن اللجوء إلى الفصل 80 هو عنوان فشل الجميع في الحوار وفي تجاوز المعارك وفي التعايش السياسي وفي فهم وظيفة الحكم والعلاقة بالشعب ومعنى الثقة وأن المؤسسات الديمقراطية ليست قيداً في معاصم الشعوب.
فهل كان من الممكن تجاوز سيناريو 25 يوليو 2021؟ هذا ما يجب أن تفكر فيه الطبقة السياسيّة كاملة في تونس وتتحمل مسؤوليتها من خلال المراجعة والتفكير والنقد والمحاسبة الذاتية.