التجسس الإلكتروني
بقلم: د. نادية عويدات
النشرة الدولية –
الحرة –
نشرت صحف دولية، من ضمنها الغارديان والنيويورك تايمز والواشنطن بوست، تقارير عن تحقيق دولي يكشف تورط إحدى أهم وأكبر شركات التجسس الإلكتروني الإسرائيلية (مجموعة NSO GROUP) في التعاون مع أكثر من 50 دولة، بينها دول خليجية، خصوصا السعودية والإمارات والبحرين، وكذلك المغرب، للتجسس على نشطاء المجتمع المدني وصحفيين ومعارضين سياسيين.
واعتبرت منظمات حقوقية، مثل منظمة العفو الدولية، هذا السلوك اعتداء فاضحا على الديمقراطية في السنوات الأخيرة.
اللافت للنظر في هذا الخبر أن إسرائيل، التي تلوح باستمرار في المحافل الدولية بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تساهم اليوم في منع مواطني دول أخرى من التمتع بهذه الحقوق، وذلك من خلال تمكين أنظمة بالتقنية اللازمة لقمع نشطاء حقوق الإنسان، والصحفيين، والمعارضين السياسيين.
إسرائيل، التي تعد من أكبر الدول المستثمرة في الأبحاث العلمية والتكنولوجيا، أصبحت في السنوات الأخيرة وبسبب هذا الاستثمار، تنافس دول ذات باع في الإنتاج التكنولوجي مثل الولايات المتحدة.
وقد كانت حكومة إسرائيل، كما ذكرت “النيويورك تايمز”، شجعت شركاتها على التعامل مع دول الخليج، ربما كنوع من شراء السلام مقابل تمكين الحكومات العربية من ممارسة المزيد من القمع على شعوبها. وليس الصحفي السعودي جمال خاشقجي الوحيد ممن قد ساهم البرنامج في اغتيالهم، فمن الضحايا أيضا صحفي مكسيكي مشهور يدعى سيسيليو بينادا بيترو، تم إطلاق النار عليه في الشارع.
لا بد أن الخبر سيشكل صدمة لشعوب اعتادت حتى زمن قريب على أنظمة لم تكف وسائل إعلامها ومناهجها الدراسية على نعت حليفها الجديد بـ”العدو الصهيوني”، ولومه على جميع مشكلات الشرق الأوسط.. “العدو” الذي صار اليوم يُمكّن أنظمة قمعية من إسكات كل ناشط أو صحفي، لايزال يحلم، بل ويعمل سلميا، ليكون وطنه ديمقراطيا يحفظ حقوق الإنسان.
أدوات التجسس التي تم تطويرها في كثير من الأحيان بهدف منع الهجمات الإرهابية ضد المدنيين العُزَّل يتم استخدامها اليوم ضد المثقفين والصحفيين وأصوات الإصلاح في العالم العربي.
وهكذا تبدو الديمقراطية في البلدان العربية كأنها العدو المشترك للأنظمة المستبدة في هذه البلدان وإسرائيل معاً، لأن أي ديمقراطية حقيقية تعني تجسيد الإرادة الشعبية وإحالة أي اتفاقيات تطبيع، أو غيرها، للمصادقة عليها من قبل برلمانات مُنتخبة.
إسرائيل لا تريد ذلك، والأنظمة المستبدة لا تريد الديمقراطية لأسباب واضحة، وحتى تبقى في كرسي الحكم.
تجد الأنظمة الدكتاتورية حول العالم مبررات مختلفة لخنق كل صوت معارض لسياستها بالعنف والتهديد. وفي الأنظمة الخليجية نجد تبريرات عدة تخلط “الثقافة القبلية” مع تفسيراتها للدين، وفرض مفهوم طاعة ولي الأمر، مع الدولة الريعية التي تهمش الافراد وتحولهم إلى مجرد افراد يتعاشون على منح الدولة.
كل ذلك للقول بأن هناك “خصوصية ثقافية” للمجتمعات الخليجية لا تتوائم مع الديمقراطية. ويُنتج عن ذلك منظومة نفعية قبلية تحت مسميات حديثة مثل مملكة أو جمهورية. هذه المنظومة تتعارض تماما مع أسس الدولة الحديثة التي تعطي الحق لجميع المواطنين وبشكل مباشر المشاركة بالعملية السياسية والترشح لجميع المناصب السياسية وكذلك اختيار الممثلين السياسيين أو عزلهم إذا لم يقوموا بواجبهم الوطني. لا توجد طاعة عمياء أو حتى احترام للسياسيين أو الزعماء فقط لأنهم أصحاب منصب، بل على العكس تماما، فالنظم الديمقراطية تحمي المؤسسات التي تقوم بعملية مساءلة للسلطة.
وتعد الصحافة الحرة، كما هو معلوم، أحد أهم هذه الأركان، يُذكر أن الدول العربية ليست الوحيدة التي تستخدم التكنولوجيا لتثبت حكمها، فالصين، ذات التاريخ الطويل في ربط الحكم بشرعية سماوية أيضا، تبرر لنفسها قمع عشرات الملايين من مواطنيها لإدامة حكم واحد في السلطة.
وعلى سبيل المثال، أنغيلا ميركل بقيت في الحكم فقط لأن الناخبين صوتوا لها، في رضا عن أدائها السياسي. تخيلوا لو تجرأت ميركل، ولو عن طريق الافتراض، أن تقول للشعب الألماني إن عليه طاعتها لأنها قائدتهم، لو فعلت هذا لتم الاستهزاء بها علنا على عبارة كهذه، ومنيت بخسارة فادحة في الانتخابات. ذلك أن مفهوم الطاعة يُستبدل في الأنظمة الديمقراطية باحترام القوانين. ورغم كل عيوبها لا تزال الديمقراطية أكثر الأنظمة حفاظا على حقوق المواطنين.
ويفترض في المناصب السياسية خدمة الشعوب وبناء الأوطان، وليس حماية نظام قمعي وتمكينه من البقاء في السلطة، وأدت عقلية السلطات القمعية عبر العالم في نهاية المطاف إلى جر الأوطان إلى حروب ومجاعات ودمار تام للإنسان والطبيعة، فسياسات مثل هذه الأنظمة تضحي بالأخضر واليابس لاستدامة حكمها، كما يحصل مع كثير من الدول اليوم، منها دول من المفترض ان تكون غنية بسبب مواردها مثل ليبيا وفنزويلا.
ويتساءل كثير من المحللين السياسيين والكتاب لو كان أولى بدول الخليج العربي أن تصرف ملياراتها، كما فعلت إسرائيل، على التعليم والبحوث العلمية، بدل أن تدمر طاقة بلادها، وتكتفي بشراء منتجات الغرب من بنايات ناطحة للسحاب وبرامج تجسس.
تنتهك برامج التجسس خصوصية الأفراد، وهو حق من المفترض أن تضمنه الدول الديمقراطية ومعظم الاتفاقيات الدولية التي تطالب بها هذه الدول المجتمع الدولي. وتعد الحريات الفردية مثل حرية التعبير وحرية الرأي من الأركان الأساسية للإعلام الحر، ومن دونها لا يمكن الحديث عن مساءلة لمنتهكي حقوق الإنسان على المستوى الدولي.
وتضمن الخصوصية حق الأفراد في التواصل مع الصحفيين ومع أفراد آخرين، وهو ما يعرضهم للانتقام من قبل أنظمة قمعية لا تتسامح مع أقل تعبير عن عدم الرضا من قبل مواطنيها. ولذا سارع وزير العدل الأميركي بتمرير قرار يمنع الدولة من التجسس على الصحفيين، ووعد أن يعمل مع الكونغرس لتثبيت القانون بحيث يصعب على إدارة مقبلة، قد تكون جمهورية، تقبل وتبني هذا النوع من الممارسات كما أثبتت إدارة ترامب.
وأعربت المؤسسات الأمنية في الولايات المتحدة توازيا مع ذلك عن قلقها من العلاقة الحميمة بين الشركة الإسرائيلية، التي يفترض أنها خاصة، وبين والموساد.
يتحسر المراقب لأوضاع الشرق الأوسط على الانحطاط المستمر الذي يبدو أحيانا لا متناهيا. فالضربات التي تعصف بهذه الشعوب تنهال عليها من جميع الاتجاهات خارجيا وداخليا. وعليه، من أين يأتي المواطن العربي بفسحة أمل؟ إذا وصل الحد بالحكام التعاون مع إسرائيل لكبت نفس أي تعبير عن اعتراض؟ إذا تم إسكات الاعتراض، فكيف تعبر الشعوب عن قهرها؟