مواقع التواصل تكشف القطيعة بين الفنان التونسي ومجتمعه
النشرة الدولية –
النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –
تحتلّ تونس اليوم أخبار الشاشات العربية: “تدهور الأوضاع، انفجار الشارع، قرارات رئاسية جديدة، اخبار مجلس النواب التونسي المجمد، ارتفاع عدد المصابين بكورونا، تحركات الدول لمساعدة تونس…”. ولكن، إذا دخلت صفحات الفنانين التونسيين على صفحات التواصل الاجتماعي (ما عدا القليل منهم)، تجد سوقاً ضخمة بل مزاداً علنياً للماركات العالمية من فساتين ومجوهرات وأحذية وأدوات تجميل وغيرها من السلع، إضافة إلى صورهم في عطلهم المكلفة والفاخرة.
شتّان بين الواقع التونسي وواقع مشاهير تونس. تضادّ كلّي يدلّ على قطيعة تامة بين الفنان ومجتمعه. وهذا التباعد يدفعنا الى السؤال عن حقيقة دور الفنان في بيئته وواجبه تجاه قضايا شعبه ووطنه. وإذا عدنا الى الوراء، لوجدنا أن النخبة من مثقفي تونس وفنّانيها ومفكّريها كانوا هم عصب مجتمعهم، يقودون الثورات ويغيّرون مجتمعات، اليوم صار الفنان في تبعية مطلقة للسلطة ولقرارات السلطة.
وأمام هذا الحال، تتحرّك ذاكرتي في اتجاه ما كان يقوله دائماً الموسيقار محمد عبد الوهاب: “هناك فنان يستفيد من فنه وفنان آخر يستفيد الفن منه”. وإذا ما تأمّلنا حياة الفنانين مما تنقله لنا وسائل التواصل، نجد أننا أمام صنفين: فنان يرتزق من الفن وفنان يضيف الى الفن يؤثر فيه ويتأثر به. والصنف الثاني هو الوحيد الذي يتعامل مع الفن بعمق وجدية.
ولكن، ما معنى ممارسة الفن بجدية؟ نعتقد أن الجدية تكمن في الوعي بأن الممارسة الفنية ليست فقط مسألة جمالية وإنما هي انتماء وقضية والتزام. الفنان الذي لا يحمل معنى جديداً للكون وللحياة، أي قيمة لفنه؟ الفنان الذي لا يحرّك الموجود بوجوده، أي قيمة لفنه؟ والفنان الذي لا يشك فيفكر فينتج أي قيمة له؟
قضايا المجتمع
إنّ الفن لا يقل أهمية عن الفيزياء أو الكيمياء في المجتمع، ولن يصل الى هذا المستوى من الأهمية إلا حين يكون فاعلاً في صيرورة المجتمعات. انه الوحيد الذي بمقدوره أن يغير الإنسانية ويرتفع بمستوى الوعي لدى الأفراد.
اننا بالـ 2021، ولا يزال الناس يعبّرون عن حالتهم وأوضاعهم بأشعار أبو القاسم الشابي ومحمود درويش وبدر شاكر السياب والملائكة وأمل دنقل وغيرهم من الشعراء الملتزمين ويجدون صدى معاناتهم في موسيقى فيروز ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم ونجاة الصغيرة والاغاني الثورة للشيخ إمام ولجوليا بطرس ويحنّون الى مسلسل “رأفت الهجان” و”ليالي الحلمية” وأفلام محمود عبد العزيز وفريد شوقي وأحمد زكي ومسرحيات عادل امام.
وكلّ هذه الأعمال الفنية تمخضت عن فنانين سخّروا إبداعهم لخدمة قضايا مجتمعاتهم. فنحن اليوم نعيش فراغاً فنياً سمح بظهور فنانين أو محسوبين على الفن الهدف الأساسي تحقيق الشهرة والنجومية واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي في جمع ثروة جماهيرية قادرة على التحول الى ثروة مالية. إن الفنان الذي يؤمن وينساق خلف نظرية “الجمهور هو من يصنع الفنان” وليس العكس، مستعد بالفطرة لأن يكون مبتذلًا وفوق المتخيل.
صابر الرباعي
بين الفنان والنجم؟
نلاحظ خلطاً كبيراً بين صفة فنان ونجم. فكلّ فنّان هو بالضرورة نجم ولكن ليس كل نجم فنان. هذا الخلط بين مقاييس الشهرة ومقاييس الإنتاج الفني الحقيقي سمح بظهور فنانين سطحيين متنصلين من قضايا بيئتهم وكل القضايا الانسانية. فتمثلهم للفن لا يتعدى حدود المهنة ولا تختلف في مخيلتهم حتى عن المهنة الإدارية أي نشاط تجاري آخر.
ومن ثمّ يسخّرون مجهودهم للاشتغال على صورتهم الشخصية واطلالاتهم أكثر من الاشتغال على انتاجهم. وغالباً ما تكون أهدافهم من ممارستهم للفن: مضاعفة جماهيرهم باللهاث وراء تقديم ما يروق للجمهور من دون أي اعتبار لجمالية فنية أو ذوق.
قبل عشر سنوات، أي منذ اندلاع الثورة التونسية، ما زال الشارع التونسي يتحرّك والشعب هو من يقود الصفوف الأمامية وليس الفنانين، ما عدا استثناءات قليلة. وإذا توقفنا عند الفنانة التونسية أمال المثلوثي التي عرفها الشارع بأنها الفنانة الحرة في عام 2011 حين وقفت أمام وزارة الداخلية وشرفت بالغناء في محفل جائة السلام الدولية، اختفت تماما بعد ذلك ومن ثم تزوجت بأجنبي واستقرت خارج تونس وابتعدت عن القضايا التونسية.
ومع اندلاع أزمة الكوفيد-19، اتضح فعلاً أن الشارع التونسي يتحرك من دون نخبته الفنية. بين الكوفيد والتظاهرات والأحداث الأخيرة التي تعيشها البلاد لا وجود للفنان، إلا القلة القليلة التي تعد على الأصابع.
فنانون ملتزمون
هذا الصيف، تعيش العائلات التونسية ملتاعة بين موتى كورونا واصابات لا تعد ولا تحصى وصيحات فزع الاوكسجين النافد من الأسواق، والخوف من الفقر والجوع، ثم جاء انفجار الشارع لتغدو تونس محطّ انتباه الجميع. ومع ذلك، والى هذه اللحظة، قلّة من الفنانين تحرّكوا، ونذكر منهم الفنانة هند صبري التي أسست جمعية “مفيد” من أجل المساعدة على جمع عبوات الأوكسجين وتساعد بالتوعية المجتمعية في ظلّ هذه الأزمة. وإذا دخلت حسابها، ستظنّ أنها ناشطة حقوقية جندت نفسها من أجل دعم الشارع التونسي وأهله.
ولم تغب صبري عن الأحداث السياسية المستجدة في تونس، فنشرت على صفحتها في “إنستغرام” صورة للعلم التونسي، وعلقت عليها قائلة: “لا ولاء إلا للوطن، ولا سيادة إلا للشعب الذي يريد الحياة. وستثبت الأيام الآتية من يؤمن حقيقة بالسلمية ومن يريد الخير للبلاد ويضعها فوق المصالح والتحالفات”. وأضافت “هاشتاغ”: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”.
ولا ننسى أيضاً الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي التي تبرعت بعبوات اوكسجين لمرضى كوفيد. وفي المقابل، بادرت الفنانة حياة جبنون بحملة لجمع الأكفان تلبيةً لطلب المستشفيات وهي الآن تستعد لحملة جمع عبوات الاوكسجين. كذلك الفنان المسرحي والإعلامي جعفر القاسمي الذي كرس صفحته لجمع مكثفات (عبوات) الأوكسجين وقد نجح في حملته ومع نسبة مهمة من التبرعات.
الممثل التونسي أحمد الاندلسي كرّس أيضاً صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي دفاعاً عن قضايا مجتمعه. ولا تغيب عنا جهود الممثل التونسي مهذب الرميلي الذي يعبّر عن انتمائه بصفة مستمرة والملتزم بالقضية مثله مثل الممثل التونسي عاطف بن حسين، إضافة الى جيل جديد من الممثلين الشباب من خريجي معاهد الفنون، وإن كنّا نسلّط الضوء على الفنانين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي والذين يستقطبون متابعين بالملايين.
وفي شكل عام، نجد أنّ بعض النجوم مثل صابر الرباعي وهند صبري ولطيفة العرفاوي وآمنة فاخر وزينة القصرينية ومنال عمارة تفاعلوا مع أحداث تونس الأخيرة ونقلوا عبر صفحاتهم جزءاً من واقع مجتمعهم، وإن بنسب متفاوتة.
وفي سياق آخر، سخر التونسيون من تصريح درة زروق التي قالت إنها ساندت الشارع التونسي، في حين أنها لم تنشر سوى “ستوري” على انستغرام، بينما لا تتوانى عن نشر صورها الخاصة والتي لا تعكس شيئاً من واقع بلدها. وأمام أزمة كورونا لم نرَ انها استغلت فعلاً صفحتها التي يتابعها أكثر من 14 مليوناً، بل ظلّت في ذروة الجائحة ومآسيها على الشعب التونسي، تتباهى بإطلالاتها ومشاريعها ورحلاتها، في حين يعاني الناس قهراً وعجزاً.
ومن درة زروق تنتقل الى صفحة الممثلة التونسية عائشة بن أحمد التي تنشر على صفحتها صورها وهي تستجم وتستعرض جمالها، من دون أية إشارة الى الواقع التونسي.
أما ظافر العابدين فنشر صوره في جلسة تصوير ومن بينها صورة مع كلبه، وهو حين كان قبل أشهر في تونس من أجل تصوير فيلمه، أغرقنا في وطنيته وخياره التونسي ورفضه لأعمال عربية ضخمة في شهر رمضان من أجل مشروعه التونسي بينما غابت الأحداث التونسية عن صفحته، ولم يظهر التضامن مع وطنه وأهله ممن يعانون على أكثر من صعيد. ولعلّ التفاعل مع وطنه تونس جاء من خلال احتفائه بفوز السبّاح التونسي أحمد حفناوي بميدالية الـ400 متر سباحة حرّة في أولمبياد طوكيو، حيث وضع صورة الفائز مع تعليق “مبروك تونس”.
من ظافر الى فريال يوسف لن يتغير الأمر كثيراً، فما تنشره على صفحتها بعيد كل البعد عن الراهن التونسي بكل تحدياته وتعقيداته. أما الفنانة الشعبية التونسية المعروفة بزازا فهي تتذمر لأنها لم تحصل على ترخيص لحفلاتها أو بالأخرى حفلات الاعراس وكأنها تعيش خارج الخريطة التونسية وليست مطلعة على نسب انتشار الكوفيد.
مع الثورة الرقمية والاعلام الجديد وغزو المنصات الرقمية وانتشار ثقافة “الأرقام”، طغت الظواهر الفنية على الممارسات الفنية الحقيقية وأصبح “المتشبه” بالفنان يحتل مواقع مهمة في وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة متكئاً على أعداد الناس المتابعين وليس على جهده وموهبته وانتاجه.
ولهذا، فمن البديهي أن تحظى رقصة نيرمين صفر في تونس بمشاهدة أعلى من أغنية وطنية للطفي بوشناق مثلاً. لقد أصبحت ثقافة الرقم أهم من ثقافة المحتوى، وحلّ ذاك المتشبّه بالفنان مكان الفنان الحقيقي بتزكية من جمهور أوجدته الحاجة الى الترفية والتسلية جرّاء ضغوط يومية في واقعٍ يضجّ بالمشاكل والأزمات. وبات الفنان الذي يقدم محتوى جيّد منفصلاً أحياناً عن قضايا مجتمعه وواقعه، ظنّاً منه أنه يمارس مهنة وليس فناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من امتيازات فكرية وإنسانية كونية.
فهل نلقي اللوم على هذا الجمهور الذي حرّكته غريزته ورغبته في التسلية الى “استهلاك” انتاجات تحت مسمى انتاجات فنية مدمرة للفكر أم نلقي اللوم على المنظومة الفنية والثقافية التي لم تترك له خياراً أو بديلاً غير ثقافة التشييئ والتهميش؟
ننهي هذه المقالة بنص صغير لنيتشه من كتابه “مولد التراجيديا”، لكونه قد يلخص معاناة المجتمع التونسي الذي يتحرك بإرادته وعزيمته فقط: كيف كان بوسع هذا الشعب ذي الحساسية الفائقة والمندفع في رغباته والموهوب على نحو ينبغ استثنائي في الألم، أن يتحمل الحياة لو لم تظهر له في شكل الهته، في لمعان الانتصار الإلهي الأسمى؟ أن الغريزة الفياضة هي التي اخترعت الفن تلك المحققة للوجود والمسؤولة على إقناعنا بمواصلة الحياة في آن، لهي نفس الغريزة التي منها ولدت الهة الأولمب، حيث تتجلي الإرادة الهيلينية كأنما في مرآة”.