عودة الروح لقادم من الموت
بقلم: صالح الراشد
النشرة الدولية –
القلب موصد .. أغلقته السنون.. تكيف مع الحياة حتى اصبح يعشق التوقف عن النبض .. محاولاً مجاراة حركة الشمس الباهته والقمر المتعب والرياح التائهة.. يهتز بهدوء كسفينة فقدت اشرعتها.. فتتلاطم بالأمواج دون أمل.. ينبض كمتحدث مل السنين والمحاضرات .. فتتوقف الكلمات على أعتاب شفتيه.. فيصمت لعل في الصمت الرجاء .. وربما خوفاً من مشنقة الجلاد وسيف السياف.. وربما من مقص الرقاب عند الرقيب.. ليتوقف عن الغناء وحتى عن مداعبة الشفتين بلحن شجي.. اصبح ينتظر ساعات الفرح بلهفة لقلتها.. فحفل الزفاف نوع من عودة الذاكرة لبيارات البرتقال والليمون.. والموت يسجل الذاكرة على شاهد لم يُشاهد شيء.. ولد في قرية فلسطينية ومات في المهجر.. احتار وقارب من الموت مرات ومرات.. وهو يتنقل من عاصمة لأخرى.. فالعواصم لا تتشابه فلا شيء يشبه القدس.. عشق الغزل بالجدران والشوارع وكان يهتف من قال ان الشوارع تتشابه.. أحب النظر للخلف فكتب التاريخ لعله يكون طريق المستقبل.
أصابه الشوق ولم يصبر على الإنتظار.. فالغائبة عن العينين احتلت وجدانه بطلة جبالها الشامخة.. وبسمة بحرها الوادع وسهول عينيها الحالمتين.. لم يرعبه أزيز رياحها واشتم ريح نسيمها.. واسترق السمع لهمسات صوتها حين اقترب من حدودها.. فنبض القلب وعادت الحياة للأوصال المتعبة.. أعاد السمع مرة أخرى فرقص شوقاً في مكانه.. دلف بابها لم يثير انتباهه لصوص سرقوا شباب وطن.. ففي لقاء المحبوب تختفي اللقطات الزائلة.. ولا يُعطى الكمبارس إلا ما يستحق.. سار كالمسحور يهذي بحبها وعشقها.. وكأني بذلك الكهل يتلقي بمحوبته العائدة من الموت.. التقاها نظر في عينيها لمس ترابها أعني خديها.. قبله بهدوء وسكينة حتى لا تجرحه الشفاة التي عانت جفاء الزمن.. حضن أشجارها وربما شعر أنه شعرها المسترسل حتى ظهرها .. أحسن بأن نجومها بين يديه فلمسها .. وهنا قفز القلب المتعب مستعيداً شبابه من جديد ليستقر في قلبها.. هتف فرحاً هذا سكني وهذه دنياي وأملي.. سأبقى حتى يشيب العمر وتقوى الساقين.. فهنا ماء الحياة وحُلم البقاء.
جنون أو عشقٌ حد الجنون أصاب الكهل ليهذي بكلمات لا تتناسب مع عمره.. فقد زادت البسمة وسكن الفرح.. فالقلب ينبض والعقل يهتف .. واليد تطلب اللقاء والصدر يحتاج العناق..وقبله على جبين تضيء الطريق .. والشفاه تهمس بحنو .. أحبك.. فتنتظر الآذان سماع عذب الكلام.. أحبك.. فالقلب عرف طريقه ووجد ضالته.. لكن الحب لا يكون من طرف واحد.. كونه يُصبح عذاباً .. يصبح قهراً.. همس الكهل من جديد وبصوت لا تسمعه جوارحه.. أحبك فهل تحبينني يا فلسطين.. أعشقك فهل تعشقني يا وطني.. وانتظر لعله يسمع الجواب.. انتظر لعل الأرض تتزلزل والبراكين تتصاعد .. انتظر لعلها شجر الزيتون يهتف ويقول.. يا عبد الله يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال واقتله.. وربما سرح بخياله ليطالب شجر الغرقد بمعاقبتهم على ألمه.. أغمض عينيه ونظر في داخله المكسور حتى لا يراه أحد.. همس في ذاته يا لهذا الألم والوجع.. سنون لم اشعر بالحياة واليوم ارتوي منها فمن يدفع ثمن سنين عمري الضائعة.. من يرد لي أيامي وشبابي؟.. من يعيد ساعات العمر للوراء لاشتكي لها غربتي في ذاتي..؟.
ناداه قلب الأرض من السماء.. هنا يا رجل العواصم تفتحت أبواب السماء.. وهنا يتقبل الله الدعوات.. وهنا ننام في الجنان.. وهنا نغفوا على أمل ونصحوا على تحدي.. فهنا يا رجل العواصم نصنع الرجال والعواصف ولا نعترف بالمحال.. عدت يا قلبي من جولات الأرض.. عدت وأحضاني تنتظر.. فكما تهت أنت في عواصم الكون.. تُهت أنا في بحر الإنتظار.. رجعت إللي بحفيد لم يزرني وربما لم يعرفني .. لكن أعلم انني عشت في ذاكرته كما عشت أنا في مخيلتك.. يا أيها الكهل أنا لاأهرم .. فأنا القدس وأنا فلسطين وأنا العاشق والمعشوق فاقترب.. افرح وكن سعيداً.. فقد وجدت ضالتك كما وجدت ضالتي.. وجدت حبيبتك ومعشوقتك وأنا وجدتك وحفيدك.. فتمسك بي ولا تتركني وتهرب.. افتح عينيك وأغمضهما حتى لا ترى غيري.. والتقط صور اللحظات الأزلية حتى تكون الزاد والزواد للسكن بين الاضلاع.. أدرك أنك حاولت الابتعاد خوفاً من القادم.. لكن الغربة كانت أظلم.. سجد الكهل على ركبتيه .. نظر في وجنتيها وقبل شفتيها وقال هنا البقاء.. فلا رحيل بعد اليوم إلا من قلبي لعقلي.. فأنت بغيتي وفرحتي فلن تبعدي عني.
اتكأ على عكازه .. سار بخطاً هادئة ثابتة.. ونظر إلى فلسطين كأنه يراها للمرة الأولى والأخيرة.. خاطبها بكل حب وود .. همس في ذاته لعل الأجيال تسمع همساته..أنت الأرض والوطن من رحمك يولد الخصب.. في رحمك ينبت العشاق.. يخرج الأحرار .. أنت حكايتنا من المهد إلى اللحد.. تراقصيننا بربيعك ..نهيم بحبك وجمالك وقدسيتك ولهاً وعشقا، ومن أجلك نغني للشهادة والشهيد الذي يروي ترابك بدمه.. فتورقي حباً وحياة فيحيا الشهيد بارتقائه ليحيا الوطن .. فتحضنه أمه الأرض فتعيده إلى رحمها ثانية.. ففيك .. نعم فيك وحدك سأبني بيت حفيدي وسأشيد قبري.