في الثقافة والازدراء
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
من مظاهر تخلّف دولنا، التي يصعب حصرها، قلة اكتراث حكوماتنا، وبالتالي شعوبنا، بالثقافة. وينقل عن «غوبلز»، وزير دعاية هتلر، أنه كان يضع يده على مسدسه فور سماعه لكلمة «مثقف»!
ومن عثرات الثقافة الأخيرة في دولتنا قرار الحكومة «الصامت» تسليم صروح ثقافية عالمية، كدار الأوبرا وملحقاتها، ومتاحف علمية ومسارح عالمية، صرفت مئات الملايين على إنشائها، لأنصاف المتعلمين وغير المختصين… لإدارتها!
يبدو اهتمام القبس بإصدار ملحق دوري يعنى بالثقافة أمراً لافتاً للنظر، ضمن كل هذا التصحر الثقافي الذي نعيشه، وهو أمر يستحق الإشادة. وفي مقال بقلم المشرف على إصدار القبس الثقافي، الأستاذ جمال حسين علي، بعنوان «عندما نطق الببغاء»، حاول الكاتب وضع تعريف للمثقف، وكيف أنه يعرّفه كصورته التي حملها منذ الطفولة، فهو شخص مؤدب يحترم نفسه ومشاعر الخلق، وبالتالي ليس من قرأ كثيراً، ولا الذكيّ الذي تلقّى تعليماً جيداً وسافر طويلاً، وعرف لغاتٍ، فكل ذلك لا يجعل الإنسان مثقفاً، فالثقافة والذكاء عنصران داخليان، ولا يمكن امتلاكهما لو لم يكونا متأصلّين في شخصية الإنسان، ولا يأتيان من المعرفة فحسب، بل وأيضاً من القدرة على فهم الآخر.
وهذه القدرات تتجلّى في النقاش باحترام وبتهذيب، وحُسن القيادة، ومساعدة الآخرين بلا تباهٍ، وحماية الطبيعة، وعفّة المظهر واللسان، وصون حرمات الناس، وحسن النيّة الواعية بإنارة الآخرين وإفادتهم بعلمه.. وآلاف التفاصيل الأخرى!! وهو بالتالي، بنظري، أشبه بالعنقاء، فطوال حياتي لم ألتق يوماً بمن يمتلك كل آلاف الصفات هذه، وربما هناك من يمتلكها، ولكن سوء حظي لم يدفعهم لطريقي.
ثم يتطرق الكاتب المحترم لحقيقة تخوّف المتزمتين من كل ما له صلة بالثقافة، والإصرار على ملء رؤوس الناس بالهراء، وإبعادهم عن أفضل الأعمال الأدبية والفنيّة والموسيقية القديمة والحديثة؟ وهؤلاء هم في الغالب المنادون أكثر من غيرهم بالحفاظ على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد، وقد يكونون في الوقت نفسه، أكثر من يفسد أذواق الناس، فمهمة أغبيائهم تكمن في فحص ما ينشر ويبث حرصاً على ألا يظهر شيء «غير أخلاقي»، من وجهة نظرهم المتعفّنة، ولكنهم في الوقت نفسه لا يتردودن في هدر المليارات على أيِّ إفساد للصغار والكبار، ومواصلة مراقبتهم، والدوس على عقولهم وسحق حريّة التعبير لديهم باسم «الازدراء»، فما هي الحدود هنا؟ ومَن يقيّم الازدراء؟ ومن يثبت للمتهم أن القاضي (وحتى المحامي) مُلمّ بأصول علم الكلام والفقه، ودرس الأصول والاجتهاد الكلامي والمقاصدي، ويستطيع أن يفرّق ما بين البدعة والإصابة، يدرك النقض والقبض، الاختلاف والمباح، عميق بالتباين أو الترادف والفرض أو الواجب، الترجيح بالمقاصد وضوابطه، والتلقين والتجديد، التعارض والتراجع، التغليب والتنصيص، الجدل والتنظير، الحكم التكليفي والوضعي، الأسرار والأحكام، والأخذ بأقل ما قيل، وغير ذلك من علوم الكلام، هذا غير تمرّسه باللاهوتيات ومعرفته بالتوراة والأناجيل، وتبحره بتاريخ الأديان والأنبياء.. إلخ؟
والغريب أنه في أحيان كثيرة يغرّم «المزدري» مالاً، ويحكم عليه بالسجن. والسؤال: لِمَ دفع الغرامة للحكومة، وليس لمَن مسّه الازدراء؟
وما علاقة الأديان، في كل نصوصها، بالغرامات المالية وبسجن المزدري؟
هل يمتلك هؤلاء تفسيراً سرياً للنصوص الدينية؟ وهل لديهم توكيل إلهي للقيام بذلك نيابة عنه، لا نعرفه؟