عام على انفجار بيروت: وجهان جميل وبشع
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

بيروت ليست أجمل مدينة عربية، لا في العمارة، ولا في النضارة. ولم تكن مثل دمشق عاصمة الأمويين، أو بغداد عاصمة العباسيين، أو القاهرة عاصمة الفراعنة والفاطميين والمماليك. هي “غابة حجارة” فيها شيء من مدن الشرق وشيء من مدن الغرب، كأنها مدينة المدائن. وكل عربي يرى بيروت مدينته الثانية. ولكل عربي مكان فيها وقصة أو حلم معها. أما سرها، فإنه الفضاء الرحب حيث لا أسرار. وأما سحرها، فإنه الحرية والانفتاح والحياة الحلوة ومنصة للإبداع العربي. كل كتاب ممنوع في أي عاصمة يصدر في بيروت. كل روائي أو شاعر أو موسيقي أو فنان أو رسام أو صاحب صوت جميل تعطيه بيروت بداية الشهرة. وكل متمرّد أو هارب من الظلم والقمع والضيق في المنطقة تحتضنه بيروت. حتى حرب لبنان الطويلة بوجوهها المحلية والإقليمية والدولية التي دمرت البلد وكشفت “الجانب المظلم” من القمر، فإنها لم تتمكن من أن تقتل روح بيروت. لكن الوجه الجميل للبنان كاد يحجبه في السنوات الماضية “الوجه البشع”. وجه الفساد ونهب المال العام والخاص وسطوة المافيا السياسية والمالية والميليشياوية، والتلاعب بالعصبيات الطائفية والمذهبية. وجه التخطيط لنقل البلد من محيطه العربي وانفتاحه الدولي إلى محور يبني مشروعاً ثيوقراطياً مذهبياً في مواجهة العرب والغرب، ويتميز بالضيق والقمع والفكر الأحادي والفشل الاقتصادي والاجتماعي والفساد.

لكن الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت أظهر الوجهين معاً. ففي الرابع من أغسطس (آب) 2020، حدث انفجار وصل دويه إلى قبرص، دمّر المرفأ وثلث بيروت وأوقع قرابة مئتي قتيل وستة آلاف جريح وشرّد عشرات الآلاف. انفجار شبه نووي سماه خبراء “بيروتشيما” على غرار هيروشيما في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. سبب الانفجار المباشر هو احتراق أطنان من نترات الأمونيوم الموجودة في العنبر 12 منذ أعوام. كان الوجه الجميل هو أولاً اندفاع الشباب اللبناني لمساعدة الضحايا وتأمين الملاجئ للمشردين وإصلاح الممكن من المنازل. وهو ثانياً التعاطف العربي والدولي الرائع، حين هطلت المساعدات كالمطر من معظم البلدان. وجاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت مرتين لتنظيم تسوية سياسية وترتيب مؤتمرات دولية أحدثها اليوم في باريس لتقديم المساعدات الإنسانية. وهو ثالثاً إبداع الفنانين في التعبير بكل أنواع الرسم والغناء والشعر والموسيقى عن تراجيديا المرفأ.

أما الوجه البشع، فإنه أولاً إصرار المافيا المتسلطة على إبقاء البلد بلا حكومة، كما على الاستمرار في الفساد ورفض الإصلاح. وثانياً، وقاحة الذين أُثروا على حساب المواطنين ونهبوا أموالهم ونقلوها إلى الخارج، إذ امتنعوا حتى عن التبرع بمساعدات، وسط مساعدات جاءت من بلدان بعيدة وفقيرة ومن جمعيات لا يعرف أعضاؤها لبنان. وثالثاً، حرص المسؤولين على تغطية المجرمين الذين جاؤوا بنترات الأمونيوم وخزنوها، والذين كانوا يأخذون منها، والذين عرفوا بالخطورة من دون أن يفعلوا أي شيء، والذين سكتوا وهم يرون المخالفات. فالكمية التي جِيء بها إلى مرفأ بيروت كانت 2754 طناً. والكمية التي انفجرت كانت 552 طناً، حسب التقديرات اللبنانية والتحقيق الذي أجراه فريق من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بطلب من بيروت. والباقي أخذه أصحاب الشحنة الحقيقيون لأغراض عسكرية خارج لبنان.

واللعبة تتكرر منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، لا بل منذ الاغتيالات التي سبقته لرئيس جمهورية وشخصيات قيادية ودينية بينها مفتي الجمهورية: ممنوع على التحقيق اللبناني التوصل إلى كشف المجرمين. والمطالبة بتحقيق دولي محايد مرفوضة من “محور الممانعة”. حين عجز أهل الممانعة عن فرض إرادتهم في رفض المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في اغتيال الحريري، فإنهم لجؤوا إلى الاستهزاء بالمحكمة ورفض المثول أمامها، ثم إلى اعتبار الحكم الذي أصدرته بإدانة سليم عياش من “حزب الله” كأنه “وسام”. وأهل الممانعة اليوم قادرون على رفض أي توجه نحو تحقيق دولي، ويعملون كل ما يمكنهم لتكبيل يدي المحقق العدلي طارق البيطار، بعدما دفعوا سلفه فادي صوان إلى التنحي.

والمعادلة في لبنان ثابتة: كل جريمة كبيرة يتم تجهيل الفاعل فيها يكون المجرم معروفاً لكنه قوي ومخيف بحيث صارت تسميته ممنوعة. لا المجرم الذي نفذ فحسب بل المجرم الأكبر الذي خطط وأعطى الأمر أيضاً.

ولا نهاية لعرقلة العدالة بالألعاب السياسية والتلاعب القانوني. فمن دمّر بلداً لا يتوقف أمام تدمير مرفأ. ومن بنى مساره السياسي على المعاصي يتصور أن تكبير الجريمة يقدم له دوراً وسطوة ونفوذاً أكبر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى