شجرة الزيتون تكرّس أطيافها الفضية في لوحات تعبيرية

النشرة الدولية –

ميموزا العراوي –

لا زالت شجرة الزيتون حاضرة في الأعمال التجهيزية والنحتية والفيديو آرت واللوحات التشكيلية العربية، وقد تخطّت حقول الزيتون في بعض الأعمال كونها مجرد مشهد طبيعي أخّاذ لتصبح كل شجرة من تلك الحقول، شجرة ما فوق واقعية وواقعية فجة على السواء. واقعية بحسيتها وحضورها الباهر وبمرارة صمودها في مآقي الأرض العربية.

أذكر أنني في أحد الأيام ذهبت أنا وأصدقاء إلى مدينة صيدا اللبنانية. كنا في فصل الصيف، وكنا في فترة العصر من النهار، أي تلك الفترة التي تكتسي فيها الطبيعة ثوبا رقيقا ووهّاجا ومنعشا في آن واحد، وذلك بعد انقضاء ساعات النهار الصيفية الحارقة.

وخلال الرحلة مرّت السيارة بمشهد لا يمكن وصفه إلاّ أنه غرائبي لشدة ما كانت تصدر عنه طاقة رهيبة وسكون عامر ومُحيّر.

أذكر أنني ذهلت، فابنة مدينة بيروت لم تكن قد رأت من قبل حقل زيتون شاسع يستحم بذهب شمس تشارف على الانكفاء. كانت أوراق الأشجار مخملية يفوح منها عطر الأرض وأكاد أن أشعر بملمسها تحت أصابعي المتمسكة بقبضة باب السيارة.

لم يكن لون تلك الأشجار أخضر، بل فضيا. ولم يكن اللون لونا، بل طيفا أثيريا ينبعث من أوراق الأشجار كلما تدفّقت إليها نسمات، بل أنفاس الزمن الذي خرّ متأملا روعة تفاعلها مع الضوء.

يومها فكّرت أنه من المستحيل على أي فنان أن لا “تصعقه” روعة حقل زيتون انطلقت من المشهد الأفقي العام لتطاله فتجتاحه أحاسيس وأفكار متلاحقة.

بين مدرستين

شجرة راسخة في مآقي الأرض (لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور)
شجرة راسخة في مآقي الأرض (لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور)

لذلك، ولكثرة ما تملكه شجرة الزيتون من طاقة وما يحمله حقل الزيتون من سكينة وطمأنينة عارمة وجد الزيتون وحقله طريقه بسهولة إلى لوحات الفنانين من كل أرجاء العالم. منهم من رآه، ومنهم من تخيّله وفق صور ومشاهد مصوّرة.  وعلى الرغم من وجود فنانين أجانب كُثر جسّدوا هذه الشجرة في لوحاتهم، إلاّ أنها وفي غالبيتها لوحات مشهدية / وصفية وليست كما في الأعمال الفنية الفلسطينية والأردنية والسورية واللبنانية، أي أنها ليست حاضرة كحالة، وكانقشاع وكثبات ضرب جذوره الأثيرية في عمق الأرض وإن تلاشت أوراقه أحيانا في عبق السماء العربية.

نذكر هنا كمثال على ذلك الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ الذي رسم ربما أهم حقل زيتون على الإطلاق. ولكن بالرغم من تعبيريتها المؤثرة وقدرتها على عكس حالة الفنان المضطربة، فإنها لم ترق إلى أهمية الأعمال التي أبدعها فنانون عرب اشتبكت أغصان أشجار زيتون بأرواحهم وأرواح أجدادهم وامتدت عميقا في تاريخهم وفي مقوّمات عيشهم وقوتهم اليومي.

نذكر من التشكيليين العرب الذين رسموا شجرة الزيتون أو حقولها وأهلها الفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور الذي يعتبر رائدا في الفن الفلسطيني، كذلك الفنان والنحات الفلسطيني نبيل عناني الذي أعطى لشجرة الزيتون مكانة أساسية في معظم لوحاته، والفنانة الفلسطينية أحلام فقيه التي تميّزت بزخم لوني تماهت فيه شخوصها لاسيما النساء، مع أشجار الزيتون.

الفنانون العرب تناولوا شجرة الزيتون بصريا وشعريا، فعمّقوا من قيمتها الرمزية التي تؤكّد مدى انتمائها إلى الأرض

والفنان الفلسطيني تيسير بركات الذي مارس التجريد المقترن بتشكيل برزت فيه أرواح أشجار الزيتون وأشكالها. ومن الفنانين السوريين نذكر الفنانة سميرة بيراوي التي رسمت في إحدى لوحاتها خيمة عائلية تتوسّطها “شجرة الميلاد السورية”، والفنان السوري نزيه نبعة، رسام المرأة الشرقية لاسيما السورية الذي أحاطها، وحمّلها، وزيّنها بطبيعة غنية لم تجرأ على استثناء الزيتون المبارك وأوراقه الفاتنة ولا زيته المُضيء للقناديل، والفنان السوري سرور علواني الذي رسم شجرة الزيتون وكأنها باقة من نور.

ونذكر أيضا من الفنانين الأردنيين الفنان عصام مسرات الذي رسم حقل الزيتون ويوم قطافه بألوان باذخة الفرح. ومن الفنانين التشكيليين اللبنانيين نذكر الفنان جميل ملاعب، رسام الطبيعة اللبنانية والقرى اللبنانية الذي رسم قطاف الزيتون وكأنه عرس جماعي، والفنان الرائد مصطفى فروخ الذي وثّق جمالية القرى اللبنانية وعذوبة شجرة الزيتون وقوتها وثباتها في آن واحد.

ونذكر أيضا الفنان حسان صمد، لاسيما لوحته الباهرة التي حملت عنوان “يوم واحد جيد”، وهي لوحة بمقياس كبير (198/207 سم) تشمخ وسطها شجرة زيتون عملاقة، قربها آثار دخان ناتج عن حريق افتعله “فاعل خير” ما. وبالرغم من بقايا نفايات مهترئة منتشرة هنا وهناك من حولها، يشعّ من اللوحة سكون عجائبي يخطف الناظر إليها، فلا يريد إلاّ البقاء أمامها طويلا.. طويلا.

ومن الفنانين اللبنانيين نذكر الفنانة تغريد درغوث التي قدّمت منذ بضعة سنوات نصا معاصرا جبارا ضمن معرض فردي لها عن أشجار زيتون لبنان.

معرض لم يخرج منه الزائر إلاّ مُثقلا بسؤال متشعّب وهو “أيّ طرف سيكون قادرا على منح السلام وهو لا يتوانى عن أن ينهال على أشجار الزيتون المذكورة في تلموده تقطيعا، وحرقا، واقتلاعا، وسرقة، وتجريفا”؟

رمز وتاريخ

لوحة للفنانة اللبنانية تغريد درغوث
لوحة للفنانة اللبنانية تغريد درغوث

في هذا السياق نذكر أن أشجار الزيتون وجدت منذ أكثر من سبعة آلاف سنة في منطقة شرق البحر المتوسط. ومن ثم انتقلت من بلاد الشام إلى المغرب العربي ومنه إلى إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا.

يشار أيضا إلى أن شجرة الزيتون هي التي باركها الله في الكتب المقدّسة إلى جانب أشجار التين وأقسم بها في القرآن الكريم. وكما تكلّلت شعوب هذه المنطقة ببركة هذه الشجرة باكرا في التاريخ، كذلك اكتست معان مستجدة يعود تاريخها إلى قبيل احتلال الكيان الإسرائيلي لفلسطين امتدادا إلى النكبات العربية المتتالية.

لا يسعنا إلاّ أن نختم قائلين بأن الفن التشكيلي الفلسطيني كما العربي بشكل عام (وإن كان كل بلد عربي يمتلك خصوصية تميّزه عن غيره من الدول العربية الأخرى) تناول أشجار الزيتون بصريا وشعريا، فعمّق من قيمة الذاكرة الجماعية وساهم مساهمة أساسية في الحفاظ على كل الأفكار التي تجسّدها شجرة الزيتون لاسيما الانتماء إلى الأرض.

وهكذا، فدور الفن من هذا المنظار يذكّرنا بكلمات الشاعر محمود درويش التالية “لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا”. الفن، يُذكّر أشجار الزيتون بتاريخها وأهلها ويحصّن ذاكرة أصحابها إلى أشجار زيتون العودة. ومنها الانطلاق نحو المستقبل.

شجرة الاخضرار الدائم (لوحة للفنان الفلسطيني نبيل عناني)
شجرة الاخضرار الدائم (لوحة للفنان الفلسطيني نبيل عناني)
توثيق بصري لثبات وقوة شجرة الزيتون (لوحة للفنان اللبناني مصطفى فروخ)
توثيق بصري لثبات وقوة شجرة الزيتون (لوحة للفنان اللبناني مصطفى فروخ)
حضور باهر للأخضر شكلا ولونا (لوحة للفنان اللبناني جميل ملاعب)
حضور باهر للأخضر شكلا ولونا (لوحة للفنان اللبناني جميل ملاعب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى