في الميزان النقدي الأسطورة صباح من الصوت الجبلي الحاد إلى جامعة في الأداء
النشرة الدولية –
بقلم جهاد أيوب –
صوت الأسطورة صباح جبلي وعاطفي ويطرب، ونوعه في أفضل حالاته ميزو سوبرانو، وحينما كبرت في السن أي بأخر مراحله كان التو، ويمتاز بقوته وبنبراته العريضة غير المزعجة، وهو حالة خاصة في الغناء والطرب العربي بشكل عام، لذلك حينما يقال صباح هي الصوت والباقي صدى ليس عبثاً بل حقيقة.
اشتهرت صباح منذ البداية وبعمر السبع سنوات بالغناء الارتجالي، والتصرف العفوي عبر ابتكار الموال الذي كانت تغنيه على طريقة الزجل، وأدخلت عليه تطويل وسحبة الأوف والنفس دون أن تدرك ماذا تفعل آنذاك، ومع الزمن وتكوين الشخصية وضعت منهجاً خاصاً بموال بلاد الشام، وتحديداً في لبنان بقدرات المرأة، ووديع الصافي أيضاً وضع منهجاً خاصاً بالموال بقدرات الرجل.
قبل صباح ووديع لم يكن لدينا ما يغنى اليوم من موال، ولا طريقة خاصة بالأغنية، من سبقهما كان يغني الموال والأغنية المصرية والبغدادية والقدود، ويعود الفضل في نشر الغناء اللبناني الارتجالي مع الموال محلياً وعربياً إلى صباح دون غيرها، وبالطبع لو لم يكن لديها الحنجرة القوية والذهبية، والنفس القوي الذي أخاف أهم المطربين والمطربات، ومعرفتها الواسعة بالمقامات، والتنقل من نغم إلى أخر بسلاسة ودون إزعاج لأختلف الموضوع والوضع كلياً.
كما يعود الفضل الأول في نشر الأغنية اللبنانية والشامية في الوطن العربي إلى صباح، وتحديداً من خلال الأفلام المصرية التي شاركت فيها، واشترطت أن تغني اللبناني.
الاعتراف
تعترف صباح في أكثر من لقاء أنها هي التي لحنت جميع مواويلها إلا ما ندر، وكان فريد الأطرش، وعبد الوهاب، و فيلمون وهبي وكل من لحن لها يترك لها حرية التصرف والتلحين في أداء الموال داخل أغنية حملت اسم غيرها لحنياً!
عندما ذهبت صباح إلى مصر بعمر 14، وأخذت تغني لم تقنع الملحنين والمتخصصين، وقال عنها النقاد:” تمثل، وجميلة، ولا بأس إن غنت فصوتها من الأصوات الملساء التي تفتقر إلى الملامح والتفاصيل”!
آنذاك كانت جانيت وفيما بعد صباح مندفعة ،تؤدي بتسرع رغم رشاقتها، وتستعمل جيوبها الأنفية، وفتح الفم والصوت الطالع من الرأس بعباطة وخطورة على طبيعة صوتها الجبلي والحاد، وقد يتحطم مع الزمن، ويفتقر للشجن والرومانس والحلم، ولكن صباح التي قيل بأن صوتها مطواع، ويحمل طيبة لم تستسلم وتنزوي، فتعرفت على عيوب صوتها منذ البداية، وعالجته خلال مسيرتها، ورعته، وهي من اكتشف قوته وأعماقه وتحدته، ومن خلال الأغاني اللبنانية، والمهرجانات المفتوحة، أصبح صوت صباح صوتاً جبلياً جلياً واسع المساحة بامتياز، وصوتاً مصرياً أنيقاً جاذباً وذكياً يتفوق بخصوصيته مما جعل غالبية الشعب المصري يتفق على أن صباح “بتاعتنا ومننا وبلدياتنا”.
الزمن في صوتها
مع الزمن أصبح صوت صباح كبير المقدرة على أداء كل أنواع الغناء، وذات امتدادات صوتية سليمة، ينتقل صاعداً من طرفه الثقيل إلى طرفه الحاد وبالعكس، ممتداً على أربعة عشر مقاماً سليماً يندر أن تتمتع بها مطربة لبنانية وعربية حالياً.
عملت صباح على تثقيف صوتها بنفسها وبجهودها، ولونته، ولعب زكريا أحمد، ورياض السنباطي والقصبجي دوراً مهماً في البدايات، لكن صباح كانت ميالة أكثر لأعمال عبد الوهاب وفريد الأطرش وأبناء جيلها أمثال وديع الصافي والأخوين رحباني، وفيلمون وهبي، وحتى لا تعيش انفصاماً، وهي الصبية والرشيقة، ويصرون عليها أن تتعامل مع شيوخ التلحين هرولت إلى ما يشبهها، والتقت بالملحن كمال الطويل، وقدما ” مال الهوى”، أغنية فيها ميول إلى الحزن والشجن، هذا اللون الجديد عليها كشف عن قدرات صوتية عالية، وقدرة في الأداء المتقن والتلوين الذكي، وفي تلك الفترة بالذات خف وهج وعمل وحضور غيرها من الأصوات، علماً النقاد قالوا أن غناء صباح سيختفي، والمستقبل لأصوات أقوى من صوتها، ولكن حدث العكس لأنهن متشابهات مقلدات بينما صباح أصبحت لوناً جديداً ومتفرداً لا يشبه إلا صباح، وحالة متفوقة شكلاً ومضموناً وشياكة في المظهر والكلام ونطق الحروف والتصرف، وبدأت صاحبته باستيعاب ما ستكون عليه، وأخذت تزخرف صباح بصباح، وتتعمد الارتجال وتقديم العرب دون تصنع، وأداء الصوت المرتفع دون إزعاج، لذلك كل من انت لها قال:” صباح تغني صباح، وتجعل من اللحن البسيط والعادي قيمة وأكثر انتشاراً لأنها تستخدم صباح”، وقد تكون صباح ووديع الصافي فقط يقفان على المسرح ويغنيان مباشرة مع عازف عود وعازف كمنجة وضابط إيقاع دون أن ينشزا، وتسجيلات بعلبك الحية شاهدة على ذلك، خاصة ما قدماه مع الأخوين رحباني، وكان عاصي وتوفيق الباشا يقولان:” لم نطلب تصحيح أداء صباح خلال الغناء المفتوح في بعلبك، كانت تصر أن تغني كما لو كانت حفلة كبيرة رغم وجود ثلاثة عازفين فقط، وتنسى أنها في مسرحية فتبدع في الأداء الصحيح”.
نفس صباح
على صعيد نَفَس صباح وتحكمها به، وتطويل الموال من خلاله مع سحبة تصيب الجمهور بهستيريا الجنون، وكذلك من يسجل لها داخل الاستديو هي رائدة ومتفردة بذلك اللون، وحينما حصلت على الجنسية الأميركية طلب منها أن تقوم بالتأمين على حنجرتها، فصباح كانت تتحكم بالحجاب الحاجز، وتأخذ ما تريده من هواء تخزنه لتعطي طول النَفَس والمدة المصحوبان بالصوت الهادر غير المزعج، والمؤدى بتوازن داخل النوت والميزان الموسيقي، وقد تصل الديوانين!
صباح تتحكم بدرجة صوتها القصوى الحاد والغليظ واللين وخفوته مع ألحنية الناعمة التي تدخل عليها صباح غنجها ودلالها دون ابتذال، وكانت تقول لها أم كلثوم حينما تصل إلى ما أشرنا إليه:” إي ده يا مجنونة، إنت بتعذبي صوتك بالموال الخطير كدة ليه؟”!
والمعروف كلما زاد الصوت حدة لا يستطع أن يحافظ على الدفء والحنان في نزوله، بينما صباح كانت تتحكم بذلك من بين كل أبناء جيلها من المطربات، وبعضهن قد يكون صوتهن أقوى ولكن!
ومن تابع حفلات أضواء المدينة في مصر، ومهرجانات بعلبك المفتوحة يكتشف ما اشرنا إليه ببساطة، ودون تكلف من صباح، في تلك المرحلة واضبط صباح على تلميع صوتها بعد أن اكتشفته، وبذكاء منها عرفت كيف تلونه، والانتقال من نغم إلى أخر دون حذر لأنها اختارت عدم سجن صوتها بملحن واحد، وفي كل حفلة كانت تؤدي لعشرات الملحنين، وهذا يخرج كل ما في صوتها، أي عرفت بواطن الرنين في صوتها وانطلقت من الفم وكيفية استخدام لسانها داخل حلقها، وكيف توضب نَفَسها وتخرجه مع صوتها من صدرها أو من رأسها… وهذا يتعب صوت المرأة، لكن صباح مجنونة بصوتها الذي تثق به، وطوعته مع الأيام كما ترغب، لذلك تضخمه وتلينه وترقصه على درجات السلم الموسيقي بثقة، وحينما وصلت صباح إلى عمر الشيخوخة فقد صوتها الكثير، ولكنها، وبشهادة كبار الموسيقيين كانت تؤدي أفضل من عشرات مغنيات هذا الزمن، ويكفي أنها لم تنشز أو تخرج عن النوتة خلال التسجيل، و فطاحل غناء اليوم من إناث وذكور غير قادرين على إجادة أبو الزلف، والألوان التي تقولها صباح، بل بعض من يغني لها اقل ب 75 بالمائة من مقدرتها الصوتية وشخصيتها، لقد أجادت التعامل مع ما وهبها الله بحرفة عالية.
افلام ومسرحيات ومهرجانات صباح
تعاملت صباح بذكاء مع كل مرحلة في حياتها، وغامرت بثقة عارمة مع كل زمن شكلاً ومضموناً وفناً، في أفلامها قدمت البنت العذراء بخفة دم وبغناء جميل لكنه ليس طرباً، والغريب، وهذا لم يحدث مع غيرها مطلقاً أن الشعب المصري والعربي ردد أغنياتها بسرعة، وتقبلها دون انزعاج، والدليل كيف استقبل الشارع فيلمها الأول” القلب له واحد” وهاجمه بعض النقاد التابعين والموظفين من مطربات ومطربي ذاك الزمن…لونت في السينما من البنت البريئة، إلى الصبية الجميلة وإلى البنت الذكية والغاوية، والدلوعة، والمرأة الحاسمة، وصولاً إلى شخصية النجمة حيث توقف العمر عندها!
في كل هذه المراحل لونت صباح في الغناء، وقدمت الواناً طربية نادرة، وأنواعاً غنائية تحسد عليها، وكل كبار تلك المرحلة من شعراء وملحنين ركضوا للتعامل مع صوتها، ومنهم من انتشر من خلالها !
وحينما خف وهج السينما التي اتجهت إلى الشباب، والمخدرات والعصابات انتقلت صباح إلى المسرح الغنائي حيث قدمت أفضل الأعمال الغنائية، وأيضاً لونت مع كبار الملحنين، ويعود الفضل إليها في إقناع محمد عبد الوهاب وسيد مكاوي ومحمد الموجي ليقوموا بتلحين الشعر اللبناني، وكان الشرط لهم أن تقوم صباح بالغناء!
في المسرح قررت صباح ابهار الناس بالشكل الجديد التي ظهرت به، وبتقديم وجبات طربية وغنائية منوعة تدخلت هي فيها كي تناسب العصر دون الخروج من الأصالة ومن بصمة وحضور صباح، وهذا التفكير ابقى صباح منافسة لكل الاجيال، وبالطليعة رغم مرور الزمن على مسيرتها.
وكذلك صباح لم تبخل على الضوء فشاركت متفردة ومنفردة في مهرجانات عالمية كانت لا تسمح للفنان العربي بالظهور على مسارحها” هذا يتطلب دراسة خاصة”، إضافة إلى اللقاءات التلفزيونية والإذاعية الكثيفة، والسيدة صباح هي المطربة والفنانة العربية الوحيدة لها في كل وسائل إعلام الدول العربية ارشيفها الخاص لكثرة ظهورها ومشاركتها في مناسبات العرب، وبسبب ذلك حتى الآن لا نستطيع إعطاء رقماً نهائياً لعدد أعمالها الغنائية، كل يوم نكتشف ما هو جديد…
صوت صباح هو الأرض بكل صورها، ثاقب ومشرق يحمل في رخامته الماء والصخر والبحر والنهر والجبل والسهل ويرفعهم إلى السماء بثقة العبور.