الإمارة الإسلامية السنية الأفغانية والدور المستقبلي لطالبان
النشرة الدولية –
اكرم كمال سريوي –
اتصل بي منذ ستة أشهر تقريباً ضابط أمريكي صديق من أفغانستان ليخبرني بأنه عائد إلى الولايات المتحدة، وظننت أن الأمر تبديل روتيني للقوات، لكنه أخبرني عندما سألته بأن الجيش الأمريكي سيكمل انسحابه قريباً من أفغانستان تنفيذاً للاتفاق الذي وُقّع مع طالبان في 29 شباط 2020، وأرسل لي صوراً وفيديوهات عن إغلاق بعض القواعد العسكرية الأمريكية هناك.
دفعني الفضول إلى مزيد من الأسئلة، فأخبرني أن طالبان توقفت عن مهاجمة الأمريكيين في أفغانستان، ولم يعد هناك أي خطر عليهم، وعن توقعاته للمستقبل قال: الجيش الأفغاني يفتقد إلى العزيمة والعقيدة القتاليتين، ويتصرّف قادته كأمراء حرب بدافع المنفعة الشخصية والحصول على المغانم ويعيشون حياة بذخ وترف، وهم بعكس مقاتلي طالبان الذين تدفعهم ايديولوجية إسلامية متينة، وكل التقارير تفيد بأن الجيش سينهار أمام طالبان في غضون أيام بعد مغادرة القوات الأمريكية .
التخلي عن العملاء
سيبقى مشهد الطائرة العسكرية الأمريكية التي أقلعت من مطار كابل، بعد أن تعلّق بها عدد من الأفغان الذين عملوا مع الجيش الأمريكي هناك، ثم راحوا يتساقطون من على جانبيها في الجو بعد الإقلاع ، صورة راسخة في أذهان العالم ، ولعنة تلاحق الإدارة الأمريكية والجيش الأمريكي لسنوات.
فالمشهد لم يكن من فيلم رعب سينمائي عن الهروب من جماعة الزومبي، بل كان صورة حقيقية واضحة عن تعامل الأمريكيين مع عملائهم وأصدقائهم في مناطق عديدة من العالم.
هكذا ترك الأميركيون أصدقاءهم عندما غادروا فيتنام ، والأفلام الأمريكية هي التي وثّقت وعرضت تلك المشاهد المذلة للعملاء الفيتناميين ، والأمر تكرر مع القوات الأمريكية في عدة أماكن في العالم، لكن مشاهد كابل هي الأقسى، بحيث تعامل الأمريكيون مع عملائهم وأصدقائهم الأفغان خارج أي منطق اخلاقي أو إنساني، فبدوا وكأنهم يرون حشرات تعلقت على جانبي الطائرة وليس بشراً وأشخاصاً دفعهم الخوف واليأس إلى هذا السلوك الانتحاري المُذل والمهين .
كيف يمكن لمن يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، أن يسمح بإقلاع الطائرة بهذا الشكل، ولم نسمع من الرئيس الأمريكي أو أي مسؤول أمريكي آخر كلمة أسف أو اعتذار واحدة عن هذا السلوك الوحشي لقواته.
يذكرني هذا المشهد بما حدث في لبنان عام 2000 ، عندما غادرت قوات الاحتلال الإسرائيلي الجنوب دون أن تُعلم عملاءها من جيش انطوان لحد بموعد الانسحاب، وكيف انهار جيش العملاء الكرتوني وهربوا مع عائلاتهم باتجاه الحدود ، ليجدوا القوات الإسرائيلية قد أغلقت الباب في وجههم، فجلسوا يستعطفونها بدموع نسائهم وأطفالهم السماح لهم بالهرب معهم إلى داخل فلسطين المحتلة، خوفاً من رد فعل أحزاب المقاومة اللبنانية، وبعد طول انتظار سمحت إسرائيل بعبور عدد قليل منهم، فيما تعامل لبنان ومقاومته مع الباقين على قاعدة الابن الضال، ونالوا محاكمات شكلية وأحكام مخففة جداً.
المليارات الأمريكية
قال الرئيس جو بايدن أن الولايات المتحدة دفعت أكثر من ألف مليار دولار في أفغانستانً. وتُشير التقديرات إلى أكثر من ٨٤ مليار دولار أُنفِقت على تجهيز القوات المسلحة الأفغانية، التي بلغ عديدها قرابة ٣٥٠ الف جندي مجهزين باسلحة حديثة، منها طائرات بلاك هوك ومدافع وصواريخ ومدرعات ، لكن كل ذاك الجيش اِنهار في عشرة أيام ، أمام ٧٥ ألف مقاتل من طالبان، ليشكل سابقة في دروس الحرب والتاريخ العسكري.
جيش جائع يدافع في مراكز معزولة ومتروكة من قيادته، وفي ظل لعبة مفاوضات مكشوفة بين طالبان والأمريكيين بدأت منذ أشهر في قطر ، وصلت أخبارها إلى مسامع الجنود، بأنه اتخذ القرار بأن تصبح أفغانستان «إمارة إسلامية سنية بدعم من باكستان ودول عربية» ، فترك الجنود أسلحتهم ولاذوا بالفرار، ودخلت طالبان إلى المدن الأفغانية الكبرى ، من قندهار ، إلى هرات، ومزار شريف، وجلال آباد ، والعاصمة كابل بدون قتال يُذكر.
ماذا كان ليحصل لو استثمر الغرب هذه الأموال الطائلة لتطوير أفغانستان، من بُنى تحتية إلى مصانع ومشاريع إنمائية؟؟؟ أوليست البيئة الفقيرة هي الملائمة لنمو الحركات الأصولية والمتطرفة ؟ ومن الذي قاتل من الأفغان ضد الأمريكيين؟ الأغنياء أم الفقراء؟ ومن هم أغنياء أفغانستان الذين تنعموا بالفساد ونهب خيرات البلاد وإفقار الشعب، خلال ٢٠ عاماً من الحكم الأمريكي ؟؟؟
البحث عن الإمارة السنية
قدم الغرب في سبعينيات القرن الماضي الملجأ للإمام الخميني ثم ساعد في عودته إلى طهران، وفي غضون عشرة أيام انتصرت الثورة الإسلامية على نظام الشاه الذي تخلّى عنه أصدقاؤه الأمريكيون، ثم تم تحريض صدام حسين ليبدأ حرباً على إيران، استمرت ثماني سنوات وأنهكت الطرفين ، اللذين دفعا فيها مليارات الدولارات وعشرات آلاف الشهداء .
فشل الإيرانيون في ١٩٨٠/٩/٣٠ في تدمير المفاعل النووي العراقي «تموز ٢» (الذي بنته فرنسا وحصل الإسرائيليون على كامل تفاصيله) وسقطت ١٠ صواريخ من أصل ١٢ اطلقتها طائرات الفانتوم الإيرانية في العراء، فتكفلت الطائرات الإسرائيلية بعد أقل من عام في ١٩٨١/٦/٧ بتدميره، وأفهم بعدها الأمريكيون صدام حسين بأنه ممنوع عليه بناء مفاعل نووي جديد.
أوقف صدام حسين الحرب على إيران في آب ١٩٨٨ ، فتم توريطه لاحقاً بغزوة الكويت، بعد أن أوهمه الأمريكيون بأنهم لن يتدخلوا في الأمر، ثم جمعوا ضده حلفاً دولياً تحت مسمى «تحرير الكويت» ودمروا أرتال جيشه المنسحب قبل وبعد اجتيازها الحدود إلى داخل العراق ، لكن السوفيات رفضوا يومها دخول قوات التحالف إلى بغداد، فبقي صدام حسين بجيش منهك، حتى سمحت الفرصة للأمريكيين بمعاقبته عام ٢٠٠٣ على قراره بوقف الحرب مع ايران، فتم اجتياح العراق واجتثاث التركة السوفياتية الأكبر في المنطقة العربية.
استفادت ايران من سقوط صدام حسين وتمددت أذرعها في عدة دول عربية من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن وفلسطين ، وبدأ الغرب بقيادة أمريكية رحلة البحث عن إمارة إسلامية سنية لمواجهة النفوذ الشيعي الإيراني .
فشل الدعم الأمريكي للنظام الإصولي في مصر ، حيث تمكن الجيش من استعادة الدولة من قبضة الإخوان المسلمين، لتأتي بعد ذلك تجربة داعش ، حيث ظهر فجأة ابو بكر البغدادي بالمال الوفير، وانهارَ أمامه الجنود العراقيون بسرعة، فاستولى على كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة، وكاد يدخل بغداد. ثم تمددت داعش داخل سوريا، وسيطرت على أكثر من ٥٠٪ من الآراضي السورية .
رفض الروس ترك شرقي المتوسط وحليفهم السوري ، فتدخلوا عسكرياً وأنقذوا نظام بشار الأسد من الإنهيار، وكذلك رفض أصدقاء واشنطن وجود داعش على حدودهم، فهذه الأصولية المتفلّتة شكّلت خطراً على؛ الأردن، وإسرائيل ، وتركيا، ولبنان، والنظام العراقي، وحتى على الأكراد ودول الخليج العربي ، فاتُّخذ قرار تصفية داعش ،وأُبقي على بعض الجماعات المتطرفة في أدلب السورية بضمانة تركية.
حط البحث رحاله في أفغانستان، فبدأ الأمريكيون (الذين جاؤوا لإنهاء تنظيم القاعدة منذ عشرين عاماً) مفاوضات مع قادة طالبان، بدأت مع الملا عبد الغني برادر الذي اعتقل واحتُجز في باكستان عام ٢٠١٠ ، فتم الإفراج عنه بضغط أمريكي عام ٢٠١٨، ليقود بعد ذلك المفاوضات في قطر مع الأمريكيين، ويتحول بسرعة من قائد العمليات العسكرية، إلى العقل الدبلوماسي لحركة طالبان .
الدور المستقبلي لطالبان
المال والسلاح والإدارة ورايات النصر ، كل شيء أصبح جاهزاً الآن لإعلان الإمارة الإسلامية السنّية الأفغانية . قادة طالبان الأربعة سيتقاسمون الحكم؛ المُلّا هبة الله أخوند زادة سيكون القائد الروحي الأعلى للحركة ، والمُلّا عبد الغني برادر رئيساً للدولة ، والمُلّا سراج الدين حقاني مع جماعته العسكرية الموصوفة بالعنف والمصنفة إرهابية، سيُشكّل الذراع العسكري الضارب للإمارة، ومسؤول التواصل مع الأصدقاء في الخارج، أما المُلّا يعقوب محمد عمر فسيتولى الشؤون العسكرية الداخلية في أفغانستان، والقوة التي تؤمن الدعم والحماية لصهره زوج عمته الملا برادر.
نظام الملالي السنّي في أفغانستان شبيه بنظام ولاية الفقيه في إيران، لكنهما على طرفي نقيض، فرغم كل الترحيب الخجول من إيران وروسيا والصين ، بسيطرة طالبان على معظم أفغانستان، يدركون جميعاً المخاطر المستجدّة القريبة من الحدود .
أول إجراءات طالبان في كابل كان إنزال رايات الشيعة وإلغاء مظاهر عاشوراء، ولاحقاً سيكون للإمارة المدعومة بالسلاح الباكستاني والأمريكي ومال بعض الدول العربية، دوراً هاماً في عدة مناطق من العالم . يعلم الأمريكيون أن قادة طالبان تربوا في حضن أسامة بن لادن، وأنّ الفصل بينهم وبين القاعدة شكلي فقط ، لإيهام الرأي العام العالمي والأمريكي ، ولطمس حقيقة الاتفاق الأمريكي السري مع طالبان.
الجماعات الإسلامية السنّية في إيران والصين ودول الاتحاد السوفياتي السابق على الحدود، وحتى في الشيشان، التي قضى فيها بوتين على الحركة الانفصالية، بدءاً من ثورة جوهر دوديف إلى أصلان مسخادوف، وكذلك إلى داغستان والقرم وسوريا والعراق ودول عربية أُخرى، الكل سيتأثر بما حصل في أفغانستان، ولا يتوهمنّ أحد أو يغرّنّه الكلام الأمريكي ، عن الفصل بين القاعدة وطالبان.
لقد تبدلت الاستراتيجية الأمريكية !!! وهذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن صراحة: « لن نحارب عن أحد بعد اليوم ، وسنتعلم من أخطاء الماضي ولن نرسل القوات العسكرية للحرب» . نعم لقد باتت الحرب أسهل، وبوسائل أُخرى ، سيحارب الأمريكيون بالمال والسلاح وجنود الدول الأخرى . السنّة في مواجهة الشيعة في كافة الدول العربية والإسلامية، وفي ظل نظامين دينيين متناقضين يسعيان لتصدير الثورة .
قالها بايدن : «عدونا الأكبر ؛ الصين ، وروسيا، تريدان منا أن نبقى نحارب في أفغانستان» والحقيقة لم يقلها بايدن وهي: أن من سيعاني المشاكل من نظام طالبان الآن هما روسيا والصين وإيران بالدرجة الأولى، والدول العربية والإسلامية الأُخرى بالدرجة الثانية ، فالصراع لن يكون سنّياً شيعياً وحسب ، بل هي الحرب بين الاعتدال والتعصب، إضافة إلى حرب التعصب الإسلامي في مواجهة الإلحاد الصيني والمسيحية الروسية .
فهل فعلاً تفاجأتم بالانسحاب الأمريكي والسقوط السريع للجيش الأفغاني ؟؟؟وسيطرة طالبان وإعلان الإمارة الإسلامية السنّية الأفغانية؟؟