كتاب العُمر وخلاصة التجربة لزهير ماجد
النشرة الدولية –
الجريدة الكويتية – حمزة عليان –
كتاب «بلا سقف» يختزل مشواراً طويلاً للصحافي اللبناني زهير ماجد، مركزاً على محطات كثيرة عاصرها الكاتب خلال العقود الماضية.
في كتاب العُمر، وهو الوصف الأقرب لرحلة الزميل زهير ماجد، والصادر حديثاً في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان “بلا سقف”، رسم فيه لوحة لجيل بأكمله امتد على مساحة سبعة عقود.
مُقدمة الكتاب بقلم د. ألبرت حرب، تعطيه معنى متخطياً حدود السيرة والمذكرات التقليدية، بقدر ما هو “تجارب حياتية موثقة، كأنما يقف كما الصوفي فوق سقف الناس”.
هو أقرب لتاريخ وطن، عند توطئة د. حياة الحويك عطية، فزهير ماجد، من جيل التمرد وتكسير القوالب المفروضة، ومن جيل ضاقت به أزمات وأوضاع الصحافة في وطنه المجتزأ من ورقة على طاولة.
من طفولته في إحدى ضواحي بيروت (منطقة برج حمود) إلى الدراسة في أوروبا، إلى العمل من لبنان إلى سورية إلى الأردن إلى مصر إلى دول الخليج، حيث سلطنة عمان المحطة الأرحب.
لم يبق عند زهير الصحافي والكاتب “غير الذاكرة كنوع من المباهاة أو الاحتماء وراء الاصبع”، كما تصفه من رافقته في مراحل معينة، د. حياة الحويك، ورأت فيه “نصا إنسانيا عاريا تماماً من التكاذب الاجتماعي”.
من بيروت يبدأ حكاية جيله، الذي اهتز تاريخه، ولم تهتز ثوابته، جيل وُلد مع النكبة الأولى (1948) أو بعدها بقليل.
في زمن المرئيات الكارثية والحزينة، إسرائيل في شوارع بيروت وأميركا وفي بغداد، حدثان قاتلان في التاريخ العربي الذي عاشه ورآه، وأضاف عليه مشاهد أخرى حزينة… أنور السادات يهبط في إسرائيل، وياسر عرفات يصافح وبمودة رابين وبيريز. هو لا يتحدث هنا عن مذكرات أو ذكريات، بل عن أوقات مر عليها وعاشها وعرفها.
تحدَّث عن طفولته يوم لم يكن يعرف معنى الوطن، فهو لم يكبر معه، كان يراه كما هو دائما؛ شوارع وأزقة وبيوتاً متهالكة لم يُحسن قراءتها في حينه، أطاحت به المعارف السياسية من كل جانب، وفي هذا الشأن، فالنص الإنساني الذي يكتبه عار تماماً من التكاذب الاجتماعي، ففي عالمنا لا يُستفاد من تلك “المرحلة الجميلة” التي اختزنتها الذاكرة، لأن المجتمع من حوله “ملوث”، فكيف يمكن دخول منجم فحم ببدلة بيضاء دون أن تتسخ!
عينك تقرأ عناوين المحتوى ولا تغادره، يأخذك إلى الكتابة كاملة، يروي، يسرد، ينتقد، يثور ويغضب، ثم يبكي ألماً على “كومة من الكتب” لم يبق منها سوى بعض العناوين!
سلك طريق الصحافة، واتخذها مهنة له، وكانت جريدة “المحرر” عام 1973 أولى الخطوات. سار على النهج الناصري، لكنه اليوم يشعر بمرارة ذاك الموقف الذي سجله على نفسه، فهو يدنو من الحقيقة، ليصحح تاريخاً وقع فيه ظلم كبير عليه وعلى مَنْ يشبه موقفه تجاه العروبة والمقاومة الفلسطينية، مستذكراً قول صديقه عصام محفوظ: “مَنْ يكُن لبنانيا يكُن عروبياً”.
الكتاب ليس فيه فصول، كما العادة، بل هو عبارة عن محطات استعاد فيها شريطا من الذكريات وضعها في إطار سردي مشوّق استعان بشواهده وشخصه، وأطل عليه من جديد، أشبه بمراجعة ذاتية ومحاكمة استدعى فيها الادعاء ليقول فيها الكلمة الفصل.
كانت بيروت بالنسبة له تعني ساحة البرج أو ساحة الشهداء، ويا لها من أوصاف، وكان لا يزال مسكوناً فيها، بعد أن توطدت صداقته بها، يعيدك إلى أيام الفرح والحياة التي تدب في مكان أثرى الذاكرة الشعبية والوطنية، يسرح بخياله، يستجمع روحه التي تركها هناك، تأتي الحرب على تلك الساحة لتعبث بها، لكن القصة لم تنتهِ هنا، ليعود إلى مقهى “اللاروندا”، وفي أجمل موقع مُطل على ساحة الشهداء، ومنها في طريقه إلى مجلة “بيروت المساء” بقيادة رئيس تحريرها أمين الأعور عام 1974.
بغداد أول وجهة
كانت بغداد أول وجهة راح إليها عام 1976، ليعمل في “الجمهورية”. يتوقف في هذه المحطة، يجري حوارات، يلتقي أهل الثقافة والشعر، يحبس أنفاسه، ويرصد أحواله وهو تحت حُكم حزب البعث، حتى مشت الدبابة الأميركية في شوارع بغداد، وخرج العراقيون، ظناً منهم أنهم سيتنفسون حُرية، كما وعدهم الأميركي، لكنهم عانوا وما زالوا، بل مازال العراق كله مشروع نظام ووطن ودولة.
عاد إلى بيروت عام 1977 ليجرب حظه. افتتح وكالة للخدمات الصحافية اسماها “نيوليبانون برس”، وكان مشروعاً مؤاتياً في تلك الأيام، لكنه قصير النفس.
عن صحافة لبنان التي “تتنفس من خارج الوطن” وترمى عليها الأموال من أكثر من بلد عربي، ملايين الدولارات ذبحت من أجل الصحافة اللبنانية، فانتعشت، وأنعشت كتاباً وصحافيين وقراء.
يسجل هنا عندما زار بغداد إبان حُكم البعث عندما رأى عدداً من أصحاب الصحف اللبنانية جاؤوا ينتظرون التحويلات المالية، وكان أكثرها يدفع نقداً.
اعترافات جريئة
زهير ماجد لم يتوان في هذه الذكريات عن جلد الذات والمراجعة النقدية والبوح بالممنوعات، فقد نشر الثياب في الهواء الطلق، لعله في ذلك يزيل الوسخ عن بياضها.
في اعترافاته الكثير من الجرأة، حياته الخاصة والمغلقة عند الكثيرين، تراها مكشوفة، وبالعين المجردة، وأنت تطالع طفولته وزواجه وشبابه، وكيف اكتشف طائفته بالمصادفة، فهو تربَّى في “بيت علماني”، والده لبناني وأمه سورية. وفي الحقيقة لم يشعر بلبنانية أبيه، ولا بسورية أمه. عاش تجربة خاصة بين حيطان منزل وحيد، اكتشف بعدها أنه مسلم، ومن مذهب معيَّن، وعرف أن الآخرين يتعاملون معه على هذا الأساس، لكنه أرغم على التعاطي مع ما لم يكن جاهزاً له في طفولته وفتوته حتى مطلع شبابه. إذن، لا بد أن تكون طائفياً في لبنان، ومذهبياً بالدرجة الأولى، فالأقليات صنعت موقعها على هذا الأساس، ونما فيها الشعور الضيق القائل إن انتماءها الطائفي أساس تكوين حياتها، وهو لب مصالحها، وهذا هو العجيب.
تجربة الأردن وسلطنة عمان
في عام 1969 ذهب إلى الأردن، وعمل في صحافتها الثقافية، وترأس تحرير الملحق الأسبوعي لجريدة “الشعب”، وفي الوقت نفسه يكتب من هناك مقالات في عدة صحف عربية. انتقلت حياته كُلها لتصبح في الأردن، وهو منغمس في إعداد برامج تلفزيونية، وفي كتابه هذا لم يرد الخوض في شؤون تخص العالم العربي إلا بما هو للضرورة.
محطته الأخيرة كانت في سلطنة عمان، وفي صحيفة “الوطن” عام 1998. تعددت سفراته إلى هذا البلد، الذي شهد عملية تغيير كبرى بعهد السلطان قابوس، وبقي فيها قرابة السنتين، كانت من أجمل الفترات التي عاشها، وواكب فيها حياة المجتمع العماني.
لم ينس مصر وذكرياتها، فكتب عن صوت المقرئ عبدالباسط عبدالصمد، وأم كلثوم، والمخزون الثقافي في “أم الدنيا”، وبما فيها من قامات ثقافية وأدبية، وما تركته في نفسه الأغاني الوطنية والغزليات المصرية.
وفي آخر الكتاب وضع عنوان “وليس النهاية”، وفيه حصيلة التجربة والأجوبة التي بحث عنها في العمل السياسي، وفي مسيرة الشعوب، وفي العلاقات بين البشر، ليخرج بالزبدة التي توصل إليها كما كتبها جبران خليل جبران في قصيدة له، وعلَّقها على أرفف مكتبته وهو شاب “إنما الناس سطور كتبت لكن بماء”. وكان إيمانه بهذا الكتاب وبالخلفية الفكرية التي تحكمه وتجربته الذاتية ما دفعه إلى الحسم النهائي بمفهوم الشعوب، واعتبارها المشكلة التي لا حل لها عبر التاريخ.
فكم مرَّت شعوب وأمم، وكم كان فيها الناس ينتقلون من زيف إلى آخر، ويتناسلون كذبة وجودهم على هذه الأرض التي تستحق الحياة بطريقة أفضل وأجمل.