حكم المافيات: لبنان… نموذجاً
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
عندما تتحكّم المافيات بالدولة، كما هو حاصل في لبنان، لا تعود المآسي تُحصى وتُعد. إنّها تكمن لك، في كلّ لحظة، وفي أيّ مكان، ومثلها مثل “ميدوسا”الإغريقية فيها “ثمانية عشر” ثعباناً.
تحت وطأتها، يُمسي الصمود اضطراراً، وتصبح النجاة صدفة، ويتحوّل الهروب حلماً.
حيث تسود المافيات وحدها الشياطين تتنعّم بالعيش، فهي تلحق الأمكنة بالجحيم الأعظم الذي يأمره إبليس الرهيب.
وفي هذا الجحيم، عبثاً التطلّع الى العدالة، والتفتيش عن المجرمين، والتعمّق في تحديد المتورطين.
في بلاد المافيات، يوجد “عرّاب” ولا يوجد مسؤول. توجد تصفية حسابات ولا توجد قوانين. يوجد العنفيون المتصارعون على التحكّم بالقيادة ولا يوجد حكّام.
في ظلال المافيات، الجريمة هي الترويح الوحيد عن النفس.الانفجارات والعبوات والرصاص هي الألعاب النارية في احتفالات تراكم الأرباح. الرضوخ هو التعبير الوحيد عن الذكاء، والمشاركة في سباق “لحس الأحذية”… عبقرية.
خلافات أركان المافيا، تكتيك. تعاونهم استراتيجية. صراعاتهم تكون على الحصص، واتفاقاتهم كذلك. وفي كلتا الحالتين أنتَ تدفع الثمن. جلّ أمنياتك أن يكون الثمن الذي تتكبّده على قدر إمكاناتك وقدرتك على التحمّل.
والمافيات، وإن كانت تغذّي العصبيات والانتماءات والأهواء والطبقات، إلّا أنّها، في عملياتها، تسهر على دمج الجميع لتقوّي نفسها تحقيقاً لأهدافها، ولهذا فأنتَ تجد “وحدة وطنية” و”تناغماً طبقياً” و”تفاهماً سياسياً”و”تعاوناً حزبياً”.
المافيات تعشق الأزمات، ولأنّها كذلك، فهي لا تنتظر حلولها بل تجهد في صناعتها. وهي تملك ما يكفي من قدرات تحقيقاً لذلك: رجالاتها في كل السلطات الدستورية وفي كل المؤسسات الأمنية وهيمنتها طاغية على كلّ القوى الفاعلة.
وعلاقة المافيات بالكيانات الوطنية مذهلة. تدخلها وتنهبها، ومن ثم تنقض عليها وتدمّرها لتعيش على أنقاضها.
في عالم المافيات، الإتّجار بأنقاض الدول أكثر ربحاً من نهب خزائنها.
أنقاض الدول هي أمعاء شعب وأمراض شعب وممتلكات شعب وثقافة شعب وحاجات شعب.
هنا الربح عظيم.هنا السوق السوداء. هنا الحدود المباحة. هنا السيادة المباعة. هنا المرافئ المفتوحة. هنا الإدارات المتراخية. هنا رائحة الرشوة أشهى من كل مبدأ وأقوى من كل قانون.
ولا تهتم المافيات بالضحايا، فهي معنية فقط بالمجرمين. الضحايا، بالنسبة لها تفصيل ممل، بينما المجرمون هم “بيت القصيد”. هم صنّاع القوة.هم رافعة السلطة. هم انتاج المال.
ولهذا، لدى المافيات، تكون رائحة الدماء أطيب عطر، ومناظر الأشلاء أجمل لوحة، واستغاثة الأطفال أروع معزوفة.
والشعوب المغضوب عليها هي التي تدمن على أفيون المافيات الذي له سحره الخاص، فهو لا يُخدّر بل ينوّم مغناطيسياً، حتى تصبح ألسنة الشعب مبرمجة وكذلك أهواؤه وتطلعاته وطموحاته.
وحدها المافيات تمنعك من التفكير بمصلحتك، للعمل من أجل مصلحتها. وحدها تردعك عن بذل الجهد من أجل نفسك، لتقاتل من أجلها. وحدها تبعدك عن الإهتمام بغدك، لتجعلك مأخوذاً بيومها.
وفي ظل سلطة المافيات، تنام على مصيبة وتستيقظ على كارثة. تذهب الى سريرك تشكو جرحاً وتنهض منه تبكي مجزرة.
في ظل سلطة المافيات، لا تعود للمبادئ قيمة، ولا يعود للوطن معنى، ولا تعود للحياة قدسية، ولا يعود للوقت جدوى.
في لبنان ومثيلاته من الدول انتقلت المافيا الى المرحلة الأخيرة من دوّامة مكاسبها: نهبت الدولة، هدّمتها، وحالياً تستثمر أنقاضها.
عبثاً تحاول أن تنسب المافيات الى فئة، ففيها ستجد الجميع، فهي مثلها مثل حكومات الوفاق الوطني، لا تترك أحداً خارجها إلّا من يهوى رصاصة في صدره أو في صدغه ومنزلاً في منفى أو زاوية في معتقل.
ولن يجد اللبنانيون من ينقذهم من مافياتهم، إذا لم ينظّفوا أنفسهم من أفيونها الذي يتكوّن من تضليل إعلامي، من عصبية طائفية، من شعارات وطنية، من انتصارات وهمية، من تجارة قومية، ومن زعامات مزرعية.