قمح فيصل وكيسنجر ورواية النفيسي

النشرة الدولية –

تشكو المجتمعات المتخلفة من ظاهرة «السذاجة»، وهذا أمر عادي، ولكنها تصبح مشكلة حقيقية في المجتمعات التي تؤمن بالغيبيات، وبنظرية المؤامرة، حيث يصبح لديها ميل شبه فطري لتصديق أي أمر أو خبر، تقريبا، حتى لو كان غير معقول، بل أصبح البعض يستمرئ تصديق الأكاذيب ويرددها بسعادة.

التشكيك فيما يقوله «الأساتذة» يعني تمردا أو شكا، ومواجهته تتطلب التيقن من حقيقة ما يقول، وهذا يعني بذل الجهد في البحث والسؤال والقراءة، وكلها أمور ليست من عاداتنا ولا من صميم تقاليدنا.

كما تساهم مناهج مدارسنا، وما نؤمن به من غيبيات، في عدم تشجيعنا على التفكير النقدي، فنسعى للبحث عن دكتاتور أو ديماغوغ (*) لنتبعه، وهذا يريحنا نفسيا ويلقي بالمسؤولية والشعور بالذنب عن كواهلنا المتعبة من الهم اليومي في تأمين «لقمة العيش»!

ألقى داعية شهير محاضرة تضمنت ملاحظة بأن مجتمعات القردة تعارض الزنا، وأنها ترجم القردة الزانية حتى الموت!

ولم يتبرع الداعية بذكر المراجع العلمية لقصته الخيالية، التي صدقها مستمعوه.

ما لا يعلمه ذلك الجاهل أن الحيوانات جميعها، بما فيها الإنسان، لم تعرف شيئا اسمه «زنا» في تاريخها، بمفهومنا الحالي، فهو نظام حديث نسبيا يعود لبضعة آلاف من السنين، تم اتباعه بناء على متطلبات معينة وتعليمات دينية. كما أن زواج الأقارب يختلف من بيئة لأخرى ومن اتباع عقيدة دينية لغيرها، والفراعنة، وغيرهم، لم يكونوا من محرمي ما نسميه الآن بزواج المحارم.

وفي جانب آخر ألقى الأكاديمي عبدالله النفيسي محاضرة، انتشر رابطها أخيرا، ذكر فيها أن هنري كيسنجر ركب الطائرة واتجه للسعودية عند سماعه عن نية الملك فيصل البدء بزراعة القمح في المملكة.

لم ينجح كيسنجر في ثني الملك عن قراره، وغادر المملكة غاضبا، وعقد مؤتمرا صحافيا في مطار الرياض أعلن فيه عن فشل مسعاه، وأن السعودية ستضطر لشرب نفطها!

بالعودة للوثائق، وللمنطق قبلها، وجدنا أن كل ما قيل محض خيال، فوزير خارجية أعظم دولة ليس بحاجة أصلا لركوب طائرة وقطع 15 ألف كيلومتر ليقول شيئا يمكن قوله من خلال مكالمة هاتفية أو عن طريق سفراء وغيرهم.

كما أن التغطية الصحافية التي كتبها برنارد كورتزمان «Bernard Gwertzman، في الـ«نيويورك تايمز» في 16/2/1975 لم تتضمن أي إشارة، ولو عابرة، لوجود خلافات بين البلدين في حينه، أو صدور تهديدات من كيسنجر، ولم يرد في مؤتمره الصحافي في مطار الرياض، مع الشيخ أحمد زكي اليماني، غير كلمات ترحيب وسعادته بلقاء الملك.

ولدي ما يثبت كلامي فهل لدى البروفيسور ما يثبت «ادعاءاته»؟

للعلم، قامت السعودية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بالتوسع في زراعة القمح، ولم تضطر يوما لشرب نفطها. وتوقفت عن زراعته بعد سنوات، ولأسباب لا علاقة لها بتهديدات كيسنجر، ثم عادت لزراعته أخيرا!

(*) الديماغوغ هو من يحاول كسب الآخرين عن طريق استغلال مخاوفهم وإثارة حقدهم وكراهيتهم لجماعات معينة، مثلما حاول أدولف هتلر في إقناع شعبه بأن اليهود سبب «كل» متاعبهم.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى