“على عينك يا تاجر”: تجديد “شبوبية” المحاصصة الحكوميّة
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
يكاد اللبنانيون يصدّقون أنّ الحلّ آتٍ، بمجرّد تشكيل الحكومة الجديدة.
وهم لا يُلامون على اعتقادهم هذا، فالدعاية الدولية قبل المحليّة تُركّز على ذلك.
وفي المطلق، هذا صحيح، فالحكومات يفترض أن تنتج الحلول وتقضي على الخسائر وتنهي الفوضى.
ولكن ما هو صحيح بالمطلق لم يعد صالحاً في لبنان، لأنّ الحكومات، وفق “المعادلة” التي تُعتمد في تشكيلها، أعجز من أن تضطلع بمسؤولياتها المفترضة، على اعتبار أنّها مجرّد ترجمة لاتفاق على الحصص بين عدد من اللاعبين، بحيث يأتي الوزراء أقنعة لهؤلاء اللاعبين، فتجدهم يتخذون قراراً بأمر ويمتنعون عن اتخاذ آخر، بأمر أيضاً.
وهذا يعني أنّ وظائف السلطة تُلصَق وهمياً بالحكومة، فيما هي تكون، في واقع الحال، متمركزة في مواقع أخرى: قرارات الحرب والسلم ومعها جزئية مهمة من السياسة الخارجية، يحتكرها “حزب الله” بما له من بعد إيراني، فيما المسائل الداخلية على تنوّعها موزّعة، بأحجام متفاوتة، على “أمراء الطوائف” ومصالحهم وأهوائهم.
وأقلّه منذ 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019، جرى تحميل “حكومات الأقنعة” مسؤلية الكوارث التي كانت قد بدأت تضرب لبنان، وخرجت أصوات لبنانية، من الساحات الشعبية كما من المقارّ السياسية، تطالب بإحداث تغيير كبير في تركيبة الحكومات، بحيث تسقط عنها صفة “المحاصصة”.
وحين دخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الخط السياسي اللبناني، في ضوء انفجار مرفأ بيروت، تبنّى، في إطار “المبادرة الفرنسية”، هذا المطلب، بحيث حثّ على تشكيل حكومة مؤلفة من “اختصاصيين مستقلّين”، من أجل إنجاز “مهمة الإنقاذ”، بالاشتراك مع المجتمع الدولي ومؤسساته النقدية والاستثمارية.
لكنّ الطبقة السياسية أفشلت المبادرة الفرنسية، ووجدت باريس نفسها، لاحقاً، تدعم تشكيل حكومة بمعايير متواضعة، حتى لا نقول أكثر.
وثمّة اشتباه بأنّ هذا التقهقر الفرنسي لا يعود الى إعادة تقييم الواقع اللبناني، بل الى محاولة تهدف إلى حفظ ماء الوجه، إذ إنّ ماكرون الذاهب، في نيسان (أبريل) المقبل، الى الانتخابات الرئاسية، لا يريد أن يُدرِج تدخّله “الصاخب” في المسألة اللبنانية، في خانة الفشل.
ومن يدقّق في ما يُكشف عن المفاوضات الجارية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي، يعرف أنّ “حليمة عادت الى عادتها القديمة”، وتالياً، إذا توافرت الظروف السياسية لصدور مراسيم الحكومة العتيدة، فإنّ اللبنانيين سيكونون مجدّداً أمام واحدة من “حكومات الأقنعة”.
الحكومة العتيدة، وفق ما هو مؤكّد من معلومات، لن تكون أفضل من حكومة حسّان دياب المستقيلة، إلّا بالنسبة لمن يفضّل ميقاتي على دياب، على اعتبار أنّ الأوّل يمثّل طائفته، فيما الثاني يفتقد هذا المعيار، علماً أنّ دياب، منذ الادّعاء عليه في ملف انفجار المرفأ، لجأ لجوءاً تاماً إلى طائفته كمرجعية حماية.
وفي مراجعة المعلومات حول تشكيل الحكومة العتيدة تظهر الحصص الآتية: وزارتا الثقافة والأشغال الشاقة لـ”حزب الله”. وزارتا المالية والزراعة لـ”حركة أمل”، وزارة المهجرين لطلال إرسلان، وزارة التربية لـ”الحزب التقدمي الاشتراكي”، الاتصالات لـ”تيار المردة”، الدفاع، العدل، الطاقة، الشؤون الاجتماعية، الخارجية لرئيس الجمهورية (وضمناً لـ”التيار الوطني الحر”) والباقي لـ”نادي رؤساء الحكومة السابقين”.
وهذه التركيبة تشي بالخطر، لأنّ الطبقة الحاكمة، من جهة أولى لم تتخلّ عن وقاحتها، على الرغم من أنّ الكارثة اللبنانية التي يمكن إدخالها الى موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، تليّن الصخر وتعقّل فرعون، ولأنّ اللبنانيين، من جهة أخرى، سوف يجدون أنفسهم مرغمين على أن يعتمدوا من أجل خلاصهم، على الأدوات التي تسبّبت بمحنتهم العظمى.
أمام هذا النوع من الحكومات، سرعان ما يتراجع المجتمع الدولي عن التزاماته.
ولا يحتاج اللبنانيون، بما يملكون من خبرات ذاتية، الى نموذج أفغانستان ليدركوا أنّ كبريات الدول، عندما تتعارض مصالحها مع الوضع القائم، تنفّذ انسحاباً سريعاً، غير آبهة بالأضرار التي تتركها وراءها والمخاطر التي تولّدها.
إنّ الرئيس نجيب ميقاتي، إذا مضى قدماً في تشكيل الحكومة، وفق المعايير التي يتم تثبيتها في مفاوضاته مع رئيس الجمهورية، لن ينجح إلّا في تدوير الزوايا، وفي “علك الكلمات”، وسوف يجد نفسه، في اللحظة المناسبة، يترك البلاد أسوأ ممّا تسلّمها.
وهو سبق أن فعل ذلك، حين استقال من الحكومة في 22 آذار (مارس) 2013، بعدما وجد أنه عاجز عن التصدّي لتوجّه “حزب الله” للقتال في سوريا، وتالياً عن الالتزام بـ”النأي بالنفس” وبـ”إعلان بعبدا”، على الرغم من وجود الرئيس ميشال سليمان “الوفاقي” و”العاقل” و”المعتدل” في القصر الجمهوري.
يومها، ترك ميقاتي البلاد تدفع أثماناً غالية لأكبر فلتان أمني عرفته، بفعل انتشار جرائم الخطف من جهة، وتهديد بعض رعايا الدول العربية والإقليمية، في استعراضات “الجناح العسكري لآل المقداد”، من جهة أخرى.
إنّ ميقاتي لم يتغيّر حتى يعتقد المراقبون أنّه سوف يواجه التحدّيات التي ستعترضه، وهي، مالياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وأمنياً وميليشياوية وتبعية، أعنف بكثير من تلك التي سبق أن هرب منها عام 2013.
ولهذا فإنّ الحكومة الوحيدة التي يمكن أن تبعث على الأمل، هي الحكومة التي تستطيع استقطاب ثقة القريب قبل البعيد، بحيث لا تعود البلاد بحاجة الى “عبور طويل للصحراء”، في انتظار اختتام المفاوضات الشائكة مع “صندوق النقد الدولي”.
والحكومة المؤهّلة لاستقطاب هذا النوع السخي من المساعدات الفاعلة والعاجلة، لا يمكن أن تكون بمواصفات تلك التي يعمل عليها عون وميقاتي.
إنّ جل ما يمكن أن ينتظره اللبنانيون من الحكومة العتيدة، إذا جرى تشكيلها، هو الانتقال من الفوضى في ظل الفراغ، الى الفوضى في ظل الحكومة.
وهذا التحليل لا يمكن وضعه في خانة “التشاؤم”، لأنّ اللبنانيين أدركوا، على مدى سنوات طويلة ومؤلمة، أنّ الخلاص ليس نتاج “حالة نفسية”، بل ثمرة جهد تغييري كبير يبدأ بإعادة الاعتبار الى الدور السيادي للدولة ومؤسساتها، ولا ينتهي بدفع الطبقة الحاكمة الى التخلّي عن عقليّتها التدميريّة التي تتجلّى في تعلّقها بمعادلة المحاصصة.