عظيم الشقاء في أجمل المهاجِر!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
“مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعاً ُفني بحدّ السيف، وأنا في هذه البلاد القصية أسير بين قوم فرحين مغبوطين يتناولون المآكل الشهية والمشارب الطيبة وينامون على الأسرّة الناعمة ويضحكون للأيام والأيام تضحك لهم” (جبران خليل جبران-1917).
——-
إذا جاءني أحدهم “يتلصّص” على الكلمات التي أخطّها، وأنا جالس على هذه الصخرة البحرية الملساء أتلحّف فضّة الفجر، سوف ينقلب على ظهره لكثرة الضحك، ليصرخ في وجهي، عندما يستعيد أنفاسه:” كيف يُعقل أن تبكي جحيماً، وأنتَ تتنعّم هنا بواحد من أجمل شواطئ جنوب فرنسا وأكثرها تَرَفاً وازدهاراً؟”.
تخيّلي لهذه السخرية ليس جلداً للذات، ولا توهّمات مجنونة، بل هو نقاش موضوعي مع “الأنا” التائهة بين أرض لفظتكَ وأرض لم تترسّخ فيها.
وقد تبيّن لي أنّ غالبية كاسحة من اللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين والإيرانيين والفلسطينيين والليبيين الذين اضطرتهم ظروفهم إلى مغادرة بلدانهم، يجرون مثل هذا النقاش، كلّ يوم، وأحياناً على مدار الساعة.
وهذه الوضعية النفسية ليست واقعاً جديداً مرتبطاً بالثورة التكنولوجية التي ابتدعت الإعلام الرقمي، بل هي وضعية قديمة نسبياً، وتكفي مراجعة “أدب المهجر” ولا سيما “جوهرة” جبران خليل جبران بعنوان “مات أهلي” لإدراك ذلك.
جبران خليل جبران كان مثلي ومثل الملايين الآخرين من أترابي، يعيش في الخارج، بأمان وبحبوحة وهناء ورخاء، عندما اجتاح الجوع الكبير أهله في وطنه الأم، ممّا دفعه دفعاً إلى أن ينزوي في جنّته، حيث راح يبكي ويشكو ويئن ويصرخ ويستصرخ الضمائر.
في عابر السنوات، وكنتُ لمّا أزل مقيماً في لبنان حيث الأمان مجرّد “هدنة مؤقته”، قرأتُ جبران خليل جبران وأترابه من “رابطة القلم”، فلم أستسِغ “بكائياتهم”، إذ كيف يُعقل لـ”المُتخم” أن يشعر بالجائع، و”المُترف” أن يفهم المحروم، و”المَحمي” أن يستوعب المهدّد؟
حالياً، بتّ أفهم.
بتُّ أفهم، عندما تضاعفت أوجاعي، لحظة ناولني الصيدلي، بسرعة، الدواء الذي تمّ وصفه لي، وعندما دمعت عيناي، لحظة ملأتُ، بلا انتظار، خزّان سيارتي بما يحتاجه من وقود، وعندما وقفتُ أمام الخبّاز، أفاضل بين أنواع الأرغفة المعروضة عليّ، وحين رحتُ في السوبرماركت، أتدلّع، على “ماركات” المواد الغذائية، وحين جلستُ أُشاهد عرضاً ممتعاً في إطار منافسات الألعاب النارية، وحين عدتُ الى المنزل ووجدتُ الكهرباء تملأ غرفه غير المشغولة، وحين أدرتُ المكيّف لحظة اشتدّ الحر، وحين شربتُ الماء البارد من الثلّاجة، وحين استمعتُ إلى نقاشات حول التظاهرات التي تخرج في باريس ضد “ديكتاتورية” البطاقة الصحية المفروضة في سياق مكافحة جائحة كوفيد-19، وحين شاهدتُ كبار السياسيين يُساقون أمام قضاة التحقيق، وحين قرأتُ مقررات الحكومة التي تحلّ تيارات يمينية تتطاول، في اطار التصدّي لموجات الهجرة، على صلاحيات المرجعيات الأمنية المختصة، وحين اكتشفت أنْ لا فرق بين من يتجسّس لمصلحة دولة صديقة وبين من يتجسّس لمصلحة دولة عدوة.
بتّ أفهم بكائيات “أدب المهجر”، عندما أزعجتني قهقهات الجالسين في المقهى، وحسبتُهم، في لحظة “هلوسة” جغرافية، يفتقدون للأحاسيس الإنسانية، إذ كيف يضحكون فيما نحن في لبنان نبكي؟
وكذلك فعلت، عندما غضبتُ على صديق، بعدما دعاني إلى شكر الله على الخروج وعائلتي من لبنان، لأنّه، في هذه اللحظات، سكن ذاكرتي جميع هؤلاء الذين أحبّهم، ويعانون الأمرّين في لبنان، وبعضهم أبلغوني أنّهم لم يتردّدوا في طلب الخلاص من عزرائيل، ملاك الموت.
ومنذ حلّت الكارثة الكبرى على شعبنا، لم نعد، في مجالسنا، سواء ضمّت لبنانيين أو عرباً أو “أجانب”، نتحدّث لا في الأدب ولا في السياحة ولا في التكنولوجيا ولا في فنَ الطبخ ولا في حسن الاستثمار، بل بتنا نتبادل التأوّهات والحسرات والمآسي، وأصبحنا، كلّ يوم، نكتشف أنّ واحداً منّا مصاب باكتئاب عميق.
ووفق أطباء علم النفس، فهذا اكتئاب مبرّر، لأنّك، في مهجرك، تجد نفسك تخسر وطنك، مرة جديدة. المرة الأولى، كانت محكومة بالأمل، وكثيرون لم يكونوا يتوقفون عن التكرار بأنّهم سيعودون نهائياً، يوماً ما. هذه المرّة، الخسارة أكثر مرارة، لأنّها تغلق نافذة الأمل، رجاء العودة وإمكانية النجاة.
ومقاربة المقيمين خارج أوطانهم للوقائع، أكثر جذرية من المقيمين فيها.
المقيمون في أوطانهم يقتلون أوقاتهم في جهد كبير من أجل توفير ما يبقيهم على قيد الحياة. المقيمون خارج أوطانهم لديهم ما يكفي من وقت ليندمجوا بعذابات من يحبون، وليتأمّلوا سلوك المسؤولين المعيب في وطنهم الأم، وهم يقارنونها بسلوك المسؤولين السوي في الدول التي تحتضنهم.
المهاجرون لديهم ما يكفي من ترف ليكتئبوا، وليجدوا أنّ جيناتهم تتّصل بجينات أهاليهم المعذّبة، وأنّ نيران الجحيم يمكن أن تحرق من يسكنون الجنّة!
في مهجرك، وحالة وطنك الأم على ما هي عليه، يؤذيك الجمال، تؤنبّك الابتسامة، توجعك الخدمات المتوافرة.
في مهجرك، تتساءل عن جدواك، فلا أنتَ قوة تغيير، فلعبة الأمم تهزأ بأنينك، ولعبة المال تبخّر مداخيلك، ولا أنتَ، إنْ عدتَ قوّة إنجاز، فالشياطين الذين دفعوك، يوماً الى الهجرة، أصبحوا أصلب وأقوى وأكثر شرّاً، والناس الذين تحمل همومهم يصنّفونك، وهذا حقهم، في خانة، الآتي إليهم من كوكب آخر.
إذا لم يكن كل هذا شقاء، فماذا يكون الشقاء، إذن؟