ماجدة الرومي في الميزان النقدي صوتها في السحاب
النشرة الدولية –
برس بارتو بيروت – جهاد أيوب –
ماجدة الرومي ( Soprano )، صوتها سوبرانو، وإذا غنت الطبقات الصوتية الحادة لا تزعج أبداً، بل ينساب أداؤها كالحرير، هو صوت غربي بامتياز دربته، ووجهته، وشذبته شرقياً حتى اكتشفت سحره قبل أن يكتشفه الملحن، ولا نبالغ إن قلنا ان التعامل مع صوت ماجدة يفرض علينا أن نتعامل مع الحالة بشكل عام، فصوت ماجدة لا ينفصل عن حالة ماجدة، أي هو يشبهها ولا تتصنع معه، هو يرسمها ولا تقدر أن تهرب منه، وهي تغازله ولا تنفلت منه، وتشاكسه ويسير معها إلى حيث المسؤولية.
صوت ماجدة هو ثقافتها، وثقافتها يعني حالتها الإنسانية والطبيعية، وحالتها مشاغلها في كيفية تقديم صوتها، ومشاغلها يعني مشاعرها، ومشاعرها الإنسان فيها، وكيف هي تجده، لذلك ماجدة لا تغني إلا ما هي مقتنعة به أولاً، أي قناعتنا بالشعر بالكلام، ومن ثم يأتي اللحن…الكلمة هي التي تغري ماجدة كي تستخدم صوتها، وحينما يتصالح اللحن مع الكلمات تجد صوتها يغرد دون تعب، ويحلق عالياً، ويصل السحاب مع الفراشات.
نشأت ماجدة في بيت فنان مخضرم هو حليم الرومي، كان حاداً وواعياً ومثقفاً في الفن، لا يجامل على حساب الفن، ولا يُعقد من يسأله رغم ملامحه الحاسمة، بل يتواضع من أجل المساعدة، ويحسم بحدة مع من لا يستوعب، وتعامل مع صوت ماجدة بمسؤولية كبيرة، وبدورها استفادت منه ومن تجربته رغم فارق العمر، والتجربة، واللون، والخط الفني.
صوت ماجدة يشبه ماجدة، لهما شخصية خاصة قُلدت من قبل كثيرات لأنها مع الزمن قدمت حالة مستقلة، رصانة واتزان، وكانت في كثير من الظروف تشارك أهلها في الوطن في أصعب المواقف، البعض نصحها بالابتعاد عن الخطاب السياسي مهما كان وطنياً لأننا نعيش في بلد الانقسامات، لكنها تصر أن تقول رأيها دون الالتفات إلى الوراء، ربما هذا ضيق مساحة التواصل مع صوتها، ولكن ماجدة تصر أن تكون ماجدة، وتصر أن تتصالح مع ماجدة، وهذه الجدية يفرض على صاحبها أن يدفع ضريبة، وضريبة ماجدة تدفعها بالمسؤولية الفنية التي تؤمن بها!
بدأت من “ستديو الفن” مع المخرج سيمون أسمر، وغنت يومها للمطربة أسمهان، وبما أنها انطلقت من خلال صوت متطور ونابغة في الطرب هو صوت أسمهان الذي يجمع الشرقي والغربي معاً صنفت ماجدة بالجديد، وهي التفتت إلى ذلك فاعتمدت على أن لا تكون غيرها بقدر أن تكون متجددة، فانطلقت بالحداثة الغنائية كخط وليس كمغامرة، صحيح ذهبت إلى الغربي أكثر من الشرقي، ولعبت بجدارة في الأداء الموسيقي، كانت تأخذ صوتها إلى الروح الشرقية دون تصنع بل ضمن إمكانياتها ونجحت نجاحاً كبيراً، وساعدها في أن تبحث عن ذاتها كلون جديد المساحة الثقافية اللبنانية المنوعة والباحثة عن الاختلاف آنذاك، وبالفعل تلك المرحلة رغم الحرب الأهلية اللبنانية كانت غنية بالتنوع الثقافي، وكان لبنان يتضمن الجديد المتطور في الغناء والأداء والدراما والمسرح والشعر والتشكيل، وقليل من تجارب الرواية، والقالب الغنائي كان ممهداً لكل جديد من خلال تثبيته أصالته في المسرح وفي الصوت عبر صباح ووديع الصافي وفيروز مع الأخوين رحباني ونصري شمس الدين لبنانياُ، وعربياً لبنانياً أيضاً من خلال صباح وسعاد محمد ونور الهدى ونجاح سلام، ولا ننسى جملة الكون وهبي وزكي ناصيف وكلاسيكية توفيق الباشا وتطور الياس الرحباني…وهذه الينابيع المحلية بريش عربية نهلت منها ماجدة الرومي، وكانت ذكية في التعامل معها، والأهم انطلقت معها من خلال الاحترام والتقدير وليس الإلغاء كما حال صبيان غناء اليوم!
قد تكون تجربة الموسيقار إحسان المنذر في “كلمات” أنضج تجارب ماجدة، وأقواها إلى جانب د. جمال سلامة في “ست الدنيا يا بيروت” و”سقط القناع”، وسيدي الرئيس”، وبسرعة انتبهت قيثارة المسارح إلى خطواتها العربية الواسعة من خلال الحفلات المفتوحة فاستنجدت بالقديم الناجح فاختارت من أعمال عبد الحليم حافظ، وزكي ناصيف، ومن ثم جددت بعض أعمال والدها حليم الرومي، وبذلك ابهرت حضور حفلاتها بهذه الكوكبة المنوعة من الغناء المختلف، وتصالحت في لحظة مع الفرح والفكرة والحضور الانيق، والغناء المسؤول مع أوركسترا ضخمة خارج نمطية الحفلة العابرة كما فعل أبناء جيلها.
تجربة ماجدة الرومي مع ملحم بركات حالة خاصة، لم تحقق الانتشار الأوسع رغم تميز “اعتزلت الغرام”، وضاقت في التجربة لمزجية ملحم، ولخصوصية ماجدة، الجميع كان ينظر إلى هذه التجربة باختلاف وتميز، لكن النتيجة كانت ناجحة في أغنية ليس أكثر مع إن ملحم كان يتوقع الكثير من اللقاء، وفي اعتقادي عدم الانسجام الشخصي أضر بالانسجام الفني، و ” اعتزلت الغرام” تحقق النجاح مع الزمن، وقد تغنى بأكثر من صوت، ولكن مع ماجدة تصل معها إلى نكهة مغايرة ومشبعة بالاحساس!
نجحت ماجدة في زمن نجح فيه كثير من الأصوات الكاذبة، تلك المرحلة حرجة وصعبة على من يغني عكس التيار، وأيضاً كان معها بعض الأصوات الجميلة، والشرقية القوية، ولكن ماجدة رسمت خطاً مغايراً وتفوقت!
لقبت ماجدة بالمحاربة آنذاك حينما تعمدت الغناء بالفصحى من أجل مجابهة ما كان يقدم من سذاجة وتسطيح وغباء غنائي قبيح يفوق الجمال، ومن الخطأ القول إنها نجحت، بل وجب الإشارة إلى تفوقها، وبأنها قدمت صفعات لمن يستسهل فعل الغناء، وعادت منتصرة من حربها ضد القباحة، وهذا يتطلب جهود دولة وليس فرداً.
شكلت ماجدة الرومي أيقونة المهرجانات العربية، وقيثارة الفرح الذي نفتقده، ولقبت بفراشة الغناء العربي، لا بل هي فراشة المسرح، وربطتنا بالزمن الجميل مع حداثة العصر.
ماجدة تحببك بما تغني لأنها تحفظ بجدارة وبصدق وبأمانة من الملحن حينما تختمر النغمة، ولا تخونه، وتضيف للقصيدة حينما تشعر بذلك لكونها شاعرة ومتذوقة للشعر، ولا ترتجل على اللحن بل تلتزم بما جاء عليه التسجيل، ربما قبل ذلك تكون هنالك جلسات عمل، ولكن الخميرة في ما قدم، لذلك تدخل اللحن بصفاء وصدق واتزان وصولاً إلى إحساسها الممزوج مع إحساس الملحن والشاعر.
نعم لها رأيها بكل ما ستغنيه وهذا من حقها، حساسة في السمع، وتعطي رأيها في اختيار الكلمات، وبذلك تحترم الناس وما سينطقه لسانها.
ماجدة متصالحة مع الإنسان الذي اكتشفته فيها، جالسته، وخاضت معه نقاشات وحوارات ومناكفات إلى أن كونت صداقة متينة معه فانعكس على فنها، ومشاعرها ومشوارها، وهذا قدم لنا صوتاً ثرياً يفرض الاحترام أحببته أو لم تحبه، أقصد أن ماجدة الرومي حالة منسجمة تغني بذكاء الاختيار الخاص بها وبما تفكر وتعتقد وتؤمن !
صوت ماجدة يثير بنا البحث عن الجمال، ويحرك الفكر للمواضيع التي تغنيها، ويأخذنا في سفر بعيد، وبسرعة الفراشات يعيدنا إلى واقع نرفضه!