لماذا لا تُنجِد السعودية لبنان؟
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

مع تحوّل الأزمة التي تضرب لبنان الى واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التع عشر، تشخص الأبصار الى المملكة العربية السعودية، بصفتها الأقدر على المساعدة، بفعل ما أثبتته التجارب السابقة، إذ تسجّل التقارير الموضوعية ضخّ الرياض في الاقتصاد اللبناني بين العامين ١٩٩٠ و٢٠١٥ ما يفوق سبعين مليار دولار أميركي، بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات وقروض ميسّرة وودائع.

وعبثاً حاول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، مراراً، اقناع القيادة السعودية بالانخراط في عملية انقاذ لبنان.

وهو مع انتقال “البيت الأبيض”  الى عهدة الرئيس جو بايدن، جدّد بمعونة واشنطن، مساعيه لدى السعودية وعقدت، لهذه الغاية، لقاءات في لندن ومن ثم في الرياض، على مستويات دبلوماسية متنوّعة،لكنّها لم تثمر عن النتائج الايجابية المرجوّة، بعد.

وفي السر كما في العلن، يأخذ معارضو “حزب الله” على القيادة السعودية إهمالها للوضع اللبناني وتركه “فريسة” للهيمنة الايرانية، مع أنّ المعركة في لبنان يمكن كسبها بتنافس مالي حيث  للمملكة العربية السعودية اليد الطولى، كما يعتقدون.

ويستفيد “حزب الله” من هذا الانكفاء السعودي، في مساعيه الرامية الى رفع شأن ايران في لبنان، فيعمد الى تصوير المملكة العربية السعودية كما لو أنّها تعمل ضد لقمة عيش اللبنانيين.

إلّا أنّ كلّ هذه الضغوط لم تغيّر حرفاً في قرار القيادة السعودية تجاه الدولة اللبنانية، بل هي استفادت، في الرابع من آب (اغسطس) الأخير من المؤتمر الدولي لمساعدة الشعب اللبناني الذي نظّمته باريس بالاشتراك مع الامانة العامة للامم المتحدة، لتبلغ العالم أجمع، حقيقة موقفها، من دون أي لبس، فقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إنّ “إصرار حزب الله على فرض هيمنته سبب رئيس لمشاكل لبنان، ونحن نحث السياسيين اللبنانيين على مواجهة سلوك الحزب”.

وعاد مجلس الوزراء السعودي وتبنّى موقف بن فرحان، مؤكّداً ” أنّ أيّ مساعدة تقدّم الى الحكومة الحالية أو المستقبلية تعتمد على قيامها بإصلاحات جادة وملموسة، مع ضمان وصول المساعدات الى مستحقيها وتجنّب الآليات التي تمكّن الفاسدين من السيطرة على مصير لبنان”.

لماذا هذا “العناد” السعودي في الموضوع اللبناني؟

منذ العام ٢٠١٥، مع تولّي السعودية قيادة تحالف عسكري ضد الحوثيين في اليمن، بدأت العلاقات مع لبنان تتدهور، بعدما تبيّن أن بيروت لا تُحرّك ساكناً حيال “حزب الله” الذي حوّل لبنان الى منصة اعلامية ضدّها، وحقلاً تدريبياً لأعدائها، ومورّداً لخبراء أمنيين لمحاربتها.

وحين سجّلت اعتراضاتها على هذا النهج اللبناني، أبلغها الجميع أن لا حول ولا قوة لهم حيال “حزب الله”.

وعليه، أقدمت الرياض على خطوتين نوعيتين، الأولى تمثّلت في تعليق مساعدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار للجيش اللبناني، والثانية تجلّت في إدراج  “حزب الله” على لائحة المنظمات الارهابية.

وفي محاولة لامتصاص ما يمكن أن يتبع هذه الإجراءات، سارع أصدقاء المملكة في لبنان الى التعهّد  بأنّ العجز الذي يعانون منه ، سرعان ما يزول، بمجرّد إنهاء الشغور الرئاسي.

وأتى العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، على أساس أنّه يملك القدرة على “تحييد لبنان عن صراعات المنطقة”، بفعل التفاهمات التي عقدها مع كل من “تيار المستقبل” و”القوات اللبنانية”، من جهة و”الدالة” التي له على “حزب الله”، من جهة أخرى.

وبالفعل، لقد قصد عون السعودية في أوّل زيارة رسمية له الى الخارج، في التاسع من كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧، حيث أبدى حماسة منقطعة النظير لما أبلغته إياه القيادة السعودية عن أهدافها الحقيقية في لبنان، وهي تتلخّص في ألّا يكون لبنان ساحة خلاف عربي بل ملتقى وفاق عربي”.

لكن “حساب البيدر” لم يتطابق مع “حساب الحقل”، إذ إنّ “حزب الله”، وفي ضوء زيارة عون كثّف مواقفه ونشاطاته المعادية للسعودية، لا بل اتهمته الرياض بالضلوع في عملية  “قصف بالستية” استهدفت عاصمتها، فيما حيّد عون نفسه عن هذا التصعيد، ولم يبذل أيّ جهد لوضع حدّ له، وكأنّ كلامه في السعودية محته عودته الى لبنان.

وفي الوقت نفسه، عجزت الحكومة اللبنانية التي كانت برئاسة سعد الحريري، وهو محسوب على السعودية، عن اتّخاذ أي خطوة رادعة للحزب، على الرغم من الحوار الثنائي الذي كان ناشطاً بين الحزب من جهة و”تيار المستقبل” من جهة اخرى.

وهكذا تدهورت الأوضاع  الى أن وصلت الى ما سمّي ب”أزمة استقالة الحريري” خلال وجوده في السعودية، حيث نسجت روايات كثيرة عن وضعه في الاقامة الجبرية والضغط عليه للاستقالة ببيان هاجم فيه التدخل الايراني “السافر” في شؤون لبنان. وقد انتهت هذه الازمة، بوساطة فرنسية، بحيث عاد الحريري الى السرايا الكبير عبر قصر الاليزيه، متراجعاً عن استقالته، واضعاً لذلك شرط “نأي لبنان بنفسه عن صراعات المحاور وحروب المنطقة”.

ولكنّ شرط الحريري هذا بقي حبراً على ورق، لأنّ “حزب الله” الذي سبق له أن مزّق “إعلان بعبدا”، يرفضه جملة وتفصيلاً.

وهكذا، اعتبرت السعودية أنّ لبنان دولة ساقطة كلّياً تحت همينة “كيان إرهابي”، فأبعدت نفسها عن مؤسساته بأكملها، واكتفت بتقديم معونات “خيرية” تسهر على وصولها مباشرة الى المفترض أن يستفيدوا منها، وبرعاية اليد العاملة اللبنانية لديها.

وفي اعتقاد الرياض إنّها بذلت، لسنوات طويلة، الغالي والنفيس في لبنان، ولكنّ ذلك لم يمنع سقوطه كلّياً تحت هيمنة “حزب الله” الذي لم يتردّد في أن يكون رأس حربة ضد أمنها الاستراتيجي.

وترى القيادة السعودية أنّ على اللبنانيين والدول الصديقة للبنان، قبل أن يطلبوا من الرياض، تفعيل مساعداتها، أن يعملوا على تغيير نهج “حزب الله” وتالياً تحرير القرار اللبناني من “براثنه”.

ولكنّ “حزب الله” لا يأبه، بل هو على العكس، يستمد من ضعف لبنان قوة، بحيث يتمدّد الى حيث لم يكن قادراً على الوصول، تحت ستار  ” الضرورات تبيح المحظورات”، وفق ما هو حاصل حالياً في موضوع استيراده  المازوت من ايران.

ولا توجد قوة لبنانية فعلية تملك قدرة الضغط على “حزب الله” لتقديم المصلحة اللبنانية العليا على مصلحة “الحرس الثوري الايراني”، اذ إنّ ما سمي ب”القوى السيادية” لم “تتفرفط” فحسب، بل أصبحت “تكره” بعضها البعض الآخر، أيضاً.

ولعلّ تلك المحادثة الشهيرة التي حصلت بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير  محمد بن سلمان، قبل أشهر تلخّص واقع الحال.

يومها، روت مصادر فرنسية رسمية أنّ ابن سلمان ردّ على ماكرون حين طلب منه “العودة” الى لبنان: “يا فخامة الرئيس، لقد مللنا من الموضوع اللبناني. يعطوننا فيه من اللسان حلاوة، ولكنّهم أعجز من أن يُشرّفوا وعودهم”.

ويبدو أنّ هذا الموقف هو “العمود الفقري” للدبلوماسية السعودية، في كل ما يختص بالمسألة اللبنانية، وقد قال المسؤولون السعوديون الذين التقاهم، تباعاً، وزيرا الخارجية الاميركية والفرنسية، في لندن والسفيرتان  الاميركية والفرنسية في لبنان عند زيارة السعودية:” هاتوا أفعالاً وخذوا أموالاً”.

تعتبر السعودية أنّ خلاص لبنان مرهون بقرار شعبه، في تحرير نفسه من هيمنة “حزب الله”، ويعتبر “حزب الله”، في المقابل،  أنّ شرط السعودية هذا ليس سوى دعوة للحرب الأهلية.

بالنسبة ل”حزب الله”، فإنّ كل دعوة الى تغيير سلوكه تعني دعوة الى الحرب الأهلية، وكأنّه لا توجد مساحة وسطى بين احترام مصالح لبنان العليا وبين الحرب الأهلية.

أهم من ذلك، من تراه في لبنان، ولو كانت لديه الرغبة، يملك القدرة على أن ينازل “حزب الله” المسلّح والمدرّب والمجهّز والمموّل، في حرب؟

وفق مرجعيات عربية ودولية متقاطعة، إنّ الرياض لا تطمح للبنان، في المدى القريب، أكثر ممّا يرضيها في العراق، راهناً.

وهذا يعني أنّ الرياض تتطلّع الى سلطة لبنانية تعرف حدود اللعبة، من دون أن تكون أسيرتها.

وعليه، هي لا تطلب من لبنان لا أن يعادي ايران، ولا أن يحارب “حزب الله”، بل أن يدافع عن مصالحه وعن علاقاته العربية، ويتعاطى مع نفسه على أساس أنّه كيان مستقل، وفق النموذج الذي يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إرساءه.

إنّ  هذا العرض  لملف ضخم للغاية، لا يحاول تقديم تفسير موجز لخلفيات  تدهور العلاقات اللبنانية-السعودية، فحسب، بل إنّه يسلّط الاضواء على واحدة من أهم أسباب الكارثة العظمى التي يئن تحت ثقلها الشعب اللبناني، أيضاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى