يجب ألا نتخلى عن الشعب الأفغاني فذلك ليس في مصلحتهم ولا مصلحتنا
بقلم: توني بلير

النشرة الدولية –

إن التخلي عن أفغانستان وشعبها خطوة مأساوية، وخطيرة، وغير ضرورية، كما أنها ليست في مصلحتهم، ولا في مصلحتنا. في أعقاب إعادة أفغانستان إلى المجموعة نفسها التي صنعت مذبحة 11/9، وبطريقة تبدو وكأنها مُصمّمة تقريباً لإذلالنا بشكل علني، وإن السؤال الذي يطرحه حلفاؤنا وأعداؤنا على حد سواء، هو: هل فقد الغرب إرادته الاستراتيجية؟ يعني ذلك: هل هو قادر على التعلم من تجربته، والتفكير بشكل استراتيجي، وتحديد مصالحه بصورة استراتيجية، ومن ثم الالتزام استراتيجياً على هذا الأساس؟ هل تمثل عبارة “المدى الطويل” مفهوماً لا نزال قادرين على الإحاطة به؟ هل باتت طبيعة سياستنا حالياً غير منسجمة مع تأكيد دورنا القيادي التقليدي على المستوى العالمي؟ وهل نحن مهتمون بذلك؟

بوصفي كنت أقود بلادنا حين اتخذنا القرار بالانضمام إلى أميركا للعمل على إزاحة “طالبان” عن السلطة، ورأيت الآمال الكبيرة التي كنا قد حلمنا بها حول ما يمكن أن نحققه للشعب وللعالم تخبو تحت وطأة الواقع المرير، فإنني أعرف بشكل أفضل من الجميع، تقريباً، مدى صعوبة اتخاذ القرارات التي تقتضيها القيادة، ومدى سهولة توجيه الانتقادات، ومدى صعوبة أن تكون بنّاءً.

كان العالم في حالة هيجان في أعقاب مذبحة 3000 شخص على أراضي الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول)، قبل عشرين عاماً. وتم تدبير الاعتداء في أفغانستان على يدي “القاعدة”، المجموعة الإرهابية الإسلامية، التي وفّرت لها “طالبان” الحماية والمساعدة. كان العالم في حركة دائبة، وقد أخذ به القلق كل مأخذ، لكننا ننسى ذلك الآن. خشينا وقوع مزيد من الهجمات، التي من المحتمل أن تكون أشد سوءاً من 11/9. تم توجيه إنذار نهائي لـ”طالبان” مفاده: إما أن تسلموا قيادة “القاعدة”، وإما سيجري خلعكم من السلطة، بحيث لا يتم استخدام أفغانستان من جديد كمنطلق لشنّ مزيد من الهجمات. رفضت حركة “طالبان” الاستجابة، فشعرنا بأنه لم يكن هناك بديل ينطوي على ضمانات أقوى بالنسبة لأمننا من تنفيذ ما ورد في الإنذار النهائي.

علّقنا آمالنا على إمكانية تحويل أفغانستان من دولة إرهابية فاشلة إلى دولة تطبق نظاماً ديمقراطياً فاعلاً، وآخذة في التحسن. ربما كان هذا الطموح في غير محله، بيد أنه لم يكن طموحاً خسيساً. ليس هناك شك في أننا ارتكبنا أخطاءً في السنوات التالية، وكان بعض تلك الأخطاء خطيراً، غير أن رد الفعل على أخطائنا كان مع الأسف يتمثل في ارتكاب مزيد الأخطاء. نحن اليوم في حالة مزاجية تبدو وكأنها تعتبر جلب الديمقراطية [لبلد آخر[ كما لو أنه عبارة عن وهم طوباوي، وترى التدخل، أياً كان نوعه، عملياً، مهمة لا أمل بنجاحها البتة.

العالم غير متأكد في الوقت الحالي من موقف الغرب، لأن من الواضح جداً أن قرار الانسحاب بهذه الطريقة كان دافعه السياسة، ولم ينجم عن استراتيجية كبرى.

لم نكن في حاجة إلى الانسحاب، غير أننا اخترنا أن ننسحب. وفعلنا ذلك امتثالاً لشعار سياسي يتسم بالبلاهة حول إنهاء “الحروب الأبدية”، كما لو كان انخراطنا في عام 2021 قابلاً للمقارنة على الإطلاق مع الالتزامات التي تعهدنا بها قبل 20 سنة، أو حتى 10 سنوات ماضية، في ظروف تراجعت فيها أعداد القوات إلى الحد الأدنى، ولم يُقتل أي واحد من جنود الحلفاء في ميدان القتال خلال الـ18 شهراً الماضية.

لقد فعلنا ذلك ]الانسحاب[ ونحن نعلم أن ما قمنا به في أفغانستان قد أدى إلى مكاسب حقيقية تحققت على امتداد الأعوام العشرين الماضية، على الرغم من كون ما فعلناه أدنى قيمة حتى من عدم الكمال، ومن هشاشته البالغة. وأقول لكل من يشكك في ذلك، اقرأوا الرثاء الذي يفطر القلب الصادر عن كل فئات المجتمع الأفغاني حول ما يخشون أن يفقدوه حالياً. لقد تحققت مكاسب في مستويات المعيشة، والتعليم، وخصوصاً تعليم البنات، وأيضاً مكاسب في مجال الحريات. صحيح أن ما تم إنجازه بعيد كل البعد عما كنا نأمل بحصوله، أو نريده، بيد أن ما تحقق لم يكن لا شيء. لا، بل إنه كان شيئاً يستحق الدفاع عنه، وتجدر حمايته.

لقد فعلنا ذلك حين كانت التضحيات التي قدمتها قواتنا المسلحة قد أناطت بنا واجب الحفاظ على المكاسب الهشة. لقد فعلنا ذلك حين تم انتهاك اتفاق فبراير (شباط) 2020 بشكل يومي وبشكل يغلب عليه الاستهزاء، علماً بأن ذلك الاتفاق الذي وافقت أميركا على الانسحاب بموجبه إذا فاوضت “طالبان” على حكومة ذات قاعدة عريضة، ووفَّرت الحماية للمدنيين، كان يفيض بالتنازلات لـ”طالبان”. لقد فعلنا ذلك حين كانت كل مجموعة جهادية حول العالم تهلل مُرحّبةً.

سترى روسيا والصين وإيران ما يجري، وتستغله لصالحها. وجميع من يتلقون تعهدات من جانب زعماء غربيين سيعتبرونها بشكل يمكن تفهمه، أنها عبارة عن عملة غير مستقرة، قيمتها متأرجحة. لقد فعلنا ذلك لأن سياستنا بدت وكأنها تتطلب فعله، وهذا ما يقلق حلفاءنا، ويشكل مصدراً للبهجة في أوساط أولئك الذين لا يتمنون لنا الخير.

إنهم يعتقدون أن السياسة الغربية معطوبة.

ليس من المستغرب إذاً أن يتساءل الأصدقاء والأعداء: هل هذه لحظة يشهد فيها الغرب تراجعاً من شأنه أن يغير العصر؟

لا أستطيع أن أصدق أننا نتراجع على هذا النحو، بيد أنه ينبغي علينا أن نقدم أدلة ملموسة على أننا لا نتراجع فعلاً.

ويقتضي ذلك استجابة فورية فيما يتعلق بأفغانستان. ومن ثم يجب أن يتم التعبير بشكل واضح ومحسوب بدقة عن موقفنا حيال المستقبل.

يجب أن نقوم بإجلاء أولئك الأفغان الذين ساعدونا، ونوفّر لهم الملاذ، فهؤلاء وقفوا إلى جانبنا، ويحق لهم أن يطالبوا بأن نقف إلى جانبهم، وينبغي أن نتحمل مسؤوليتنا تجاههم. يجب ألا يكون هناك تكرار لتطبيق مواعيد نهائية تعسفية. إننا ونحن نتحمل التزاماً أخلاقياً نثابر على المحاولة حتى يتم إجلاء جميع من يحتاجون للإجلاء. يجب أن نفعل ذلك انطلاقاً من إحساسنا العميق بالإنسانية والمسؤولية، ولا ينبغي أن نفعله على مضض.

علينا بعد ذلك أن نتدبر أمر إيجاد وسيلة للتعامل مع حركة “طالبان” وممارسة القدر الأكبر من الضغط عليها. ليس هذه رغبة فارغة كما يبدو. لقد تخلينا عن كثير من نفوذنا، لكننا لا نزال نحتفظ ببعض قدرتنا على التأثير.

ستواجه حركة “طالبان” قرارات صعبة للغاية من المرجح أن تؤدي إلى شروخ عميقة فيها. تعتمد البلاد وشؤونها المالية والقوى العاملة في القطاع العام اعتماداً كبيراً على المساعدات التي ترد، بشكل لافت من الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة وجهات أخرى. ويبلغ متوسط العمر بين سكان أفغانستان 18 عاماً. وإذ تعرف غالبية الأفغان الحرية فهي لم تعرف نظام “طالبان”. ولن ينضوي معظم هؤلاء الأفغان تحت لواء “طالبان” بهدوء.

هكذا يتعين على المملكة المتحدة بوصفها الرئيس الحالي لمجموعة السبع، أن تدعو إلى عقد اجتماع لمجموعة اتصال مؤلفة من ممثلين عن دول السبع ودول رئيسة أخرى، وأن تلتزم بتنسيق المساعدات للشعب الأفغاني ومحاسبة النظام الجديد. لا يزال لدى “الناتو” 8000 جندي في أفغانستان إلى جانب الولايات المتحدة، ويجب إشراك أوروبا بشكل كامل في هذا التجمع.

ينبغي بنا أن نضع قائمة من الحوافز والعقوبات والإجراءات التي يمكن أن نتخذها، بما في ذلك تلك التي تهدف إلى حماية السكان المدنيين، حتى تدرك “طالبان” أن ما تفعله لن يمر مرور الكرام بلا عواقب.

هذا أمر عاجل. لا بد من طريقة عمل تتسم بالتماسك وتشتمل على خطة واقعية تتمتع بالمصداقية عوض الفوضى التي سادت في الأسابيع الماضية.

ولكن يجب بعد ذلك أن نجيب عن السؤال التالي الشامل: ما هي مصالحنا الاستراتيجية، وهل نحن مستعدون بعد الآن للالتزام بدعمها؟

قارن الموقف الغربي بذاك الذي اتخذه الرئيس بوتين. حين عصف الربيع العربي بدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وراح يسقط نظاماً تلو الآخر، أدرك بوتين أن مصالح روسيا كانت على المحك، وخصوصاً في سوريا. اعتقد الرئيس الروسي أن موسكو تحتاج أن يبقى الأسد في السلطة. وفي حين تردد الغرب ومن ثم حقق أسوأ النتائج الممكنة، من خلال رفض التفاوض مع الأسد، وعدم فعل أي شيء لإزاحته، حتى عندما استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، فإن بوتين التزم ]دعم مصلحة روسيا[. وقد قضى عشر سنوات من الالتزام المفتوح بدعم الأسد. ومع أنه كان يتدخل لدعم نظام ديكتاتوري ونحن نتدخل لقمع نظام مماثل آخر، فقد حقق هو، إلى جانب الإيرانيين، الهدف الذي سعى إليه. وبشكل مماثل، على الرغم من أننا أسقطنا حكومة القذافي في ليبيا، فإن روسيا، وليس نحن، كانت هي الجهة التي استطاعت أن تؤثر في مستقبل تلك الدولة.

كانت أفغانستان بلاداً يصعب حكمها على امتداد الـ20 عاماً التي قضيناها هناك. وبالطبع، كانت هناك أخطاء وحسابات خاطئة، لكن يجب ألا نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن أفغانستان كانت ورقة صعبة، في الوقت الذي كانت تشهد فيه تمرداً داخلياً يتلقى دعماً خارجياً من قبل باكستان، بقصد زعزعة استقرار البلاد وإجهاض تقدمها.

لم يستطع الجيش الأفغاني أن يصمد بمجرد توقف الدعم الأميركي، لكن لا ننسى أن 60 ألف جندي أفغاني قد ضحوا بحياتهم. وكان أي جيش سيتعرض لانهيار في معنوياته حين يتم تجريده على عجل بين عشية وضحاها من الدعم الجوي الحاسم لعمل قواته في الميدان، بسبب الكف عن توفير خدمات الصيانة للطائرات.

استشرى الفساد في الحكومة، ولكن في الوقت نفسه، كان هناك أشخاص طيبون يقومون بأعمال جيدة لصالح الناس.

اقرأ الملخص الممتاز لما أصبنا في إجرائه وما أخطأنا فيه، الذي تشتمل عليه المقابلة التي أجرتها مجلة “نيويوركر “مع الجنرال باتريوس. غالباً ما تحطمت آمالنا، لكن الأمر لم يكن أبداً ميؤوساً منه.

وعلى الرغم من كل شيء، إذا كان الأمر مهماً من الناحية الاستراتيجية، فإنه يستحق المثابرة، شريطة ألا تكون التكلفة باهظة، وهي لم تكن هكذا في هذه الحالة.

إذا كان الأمر مهماً، عليك أن تتحمل الألم. وحتى حين تكون محقاً في الشعور بالإحباط، لا يمكنك أن تشعر باليأس. يحتاج أصدقاؤك إلى الإحساس بذلك، كما ينبغي أن يعرفه أعداؤك، “إذا كان الأمر مهماً”.

إذاً، هل هو كذلك؟ هل ما يحدث في أفغانستان هو جزء من مشهد يتصل بمصالحنا الاستراتيجية ويتفاعل معها بشكل عميق؟

قد يقول البعض لا. لم نتعرض لهجوم آخر بمستوى 11/9، على الرغم من أن أحداً لا يعرف ما إذا كان ذلك بسبب ما فعلناه في أعقاب 11/9، أو على الرغم منه. يمكنك أن تقول إن الإرهاب يبقى تهديداً، لكنه ليس من النوع الذي يشغل بال كثير من مواطنينا، وبالتأكيد ليس بالدرجة التي كان عليها في السنوات التي تلت 11/9.

يمكنك أن ترى عناصر مختلفة من [الإيديولوجيا] الجهادية، التي لا صلة لها بالقضايا المحلية، والقابلة للاحتواء عن طريق الاستخبارات الجديدة.

ما زلت أزعم أنه حتى ولو كان هذا صحيحاً وكانت الحرب لإزاحة “طالبان” عن السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 غير ضرورية، فإن القرار بالانسحاب كان خاطئاً. إلا أنه لن يجعل هذا نقطة تحول جيوسياسة.

لكن، دعني أطرح الحالة البديلة، وهي وجود “طالبان” كجزء من مشهد أكبر، وينبغي أن يثير هذا قلقنا من الناحية الاستراتيجية.

هز هجوم 11/9 أركان وعينا بسبب خطورته والرعب الذي انطوى عليه. إلا أن الدافع لمثل هذه الفظائع نجم عن أيديولوجية كانت قيد التطوير لسنوات عدة. سأسمي هذه الأيديولوجية الإسلام الراديكالي [المتطرف] لعدم وجود مصطلح أفضل. وكما تظهر ورقة بحثية سينشرها معهدي قريباً، كانت هذه الأيديولوجية تتبلور بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة، منذ قرابة 100 عام.

يتمثل جوهر هذه الأيديولوجية في الاعتقاد أن المسلمين لا يحظون بالاحترام، وهم محرومون، لأنهم يتعرضون للقمع من قبل قوى خارجية، ومن جانب قياداتهم الفاسدة، وأن الحل لهذه الوضع يكمن في عودة الإسلام إلى جذوره، وخلق دولة تعتمد على الدين، وليس على القومية، وتتحكم فيها النظرة الأصولية الصارمة للإسلام بالمجتمع والسياسة.

إن تحويل دين الإسلام إلى أيديولوجية سياسية، هو بالضرورة أيديولوجية إقصائية ومتطرفة، وذلك لأنها تؤمن أن هناك ديناً وحيداً حقيقياً في هذا العالم المتعدد الأديان والثقافات، يجب علينا جميعاً أن نلتزم به. كانت هذه الأيديولوجية تتمدد وتزداد قوة في العقود الماضية التي سبقت هجمات 11/9 بوقت طويل. وقد عززت هذه الأيديولوجية قوى التطرف بشكل كبير بسبب الثورة الإيرانية الإسلامية في عام 1979، وبفعل المحاولة الفاشلة لاقتحام مكة في العام نفسه، والذي كان انعكاساً لتلك الثورة. وباتت جماعة “الإخوان المسلمين” عبارة عن حركة كبيرة. وشهد الغزو الروسي لأفغانستان تصاعد الجهاد وتناميه.

وظهرت مجموعات أخرى مع مرور الزمن، مثل “بوكو حرام” و”الشباب” و”القاعدة”، و”دولة الإسلام في العراق وسوريا”، وغيرها. كان بعض هذه المجموعات عنفياً، خلافاً لبعضها الآخر. وتقاتلت المجموعات أحياناً مع بعضها بعضاً. غير أنها تعاونت معاً في أحيان أخرى، كما هي الحال في علاقة “القاعدة” وإيران، لكن تتفق المجموعات كلها في إيمانها بالعناصر الأساسية للأيديولوجية ذاتها.

واليوم، هناك عملية واسعة النطاق لزعزعة استقرار منطقة الساحل، وهي مجموعة الدول الواقعة في الجزء الشمالي من الصحراء الكبرى في أفريقيا. ستكون هذه هي الموجة الثانية من التطرف والهجرة التي ستطرق حتماً أبواب أوروبا.

يعمل معهدي في عدد من الدول الأفريقية. وبالكاد أجد بين الرؤساء الذين أعرفهم من لا يقول إن هذه العملية تعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة له، وهي تتحول إلى المشكلة الأولى بالنسبة للبعض. تستعمل إيران وكلاء لها مثل “حزب الله” لتقويض الدول العربية المعتدلة في الشرق الأوسط. وفي هذه الأثناء، يتأرجح لبنان على شفير الانهيار. وقد مضت تركيا بشكل متزايد إلى الأمام على الطريق الإسلاموي في السنوات الأخيرة.

ورأينا في الغرب جزءاً من مجتمعاتنا الإسلامية نفسها تصبح متطرفة.

وشهدت حتى الدول الإسلامية المعتدلة، مثل إندونيسيا وماليزيا، على مدى عقود من الزمن، تحولاً في سياستها التي أصبحت أكثر إسلامية في الممارسة والخطاب أيضاً.

ولا حاجة بك للبحث عن دليل معبر بعيداً عن تهنئة رئيس وزراء باكستان لـ”طالبان” على “انتصارها”، كي تدرك أنه على الرغم من أن عديداً من هؤلاء الذين يعتنقون “الإسلاموية” يعارضون العنف في الوقت نفسه، بالطبع، إلا أنهم يتشاركون الخصائص الأيديولوجية مع الكثيرين من الذين يستخدمون العنف، ومع رؤية عالمية يقدم فيها الإسلام على الدوام بأنه يعاني حصاراً فرضه عليه الغرب.

تعتبر “الإسلاموية” تحدياً بنيوياً طويل المدى، لأنها تمثل أيديولوجية لا تنسجم على الإطلاق مع المجتمعات الحديثة التي تقوم على التسامح والحكومة العلمانية.

مع ذلك، فإن صناع السياسة الغربيين لا يستطيعون حتى الاتفاق على إطلاق اسم الإسلام الراديكالي على هذه الأيديولوجيا. نحن نفصل أن نعرفها كمجموعة من التحديات التي لا تتصل مع بعضها بعضاً، والتي يجب أن يجري التعامل مع كل منها بشكل منفصل.

ولو عرفنا أن هذه الأيديولوجيا تشكل تحدياً استراتيجياً، ورأيناها في صورتها الكاملة، وليس في أجزائها فحسب، لما كنا قد اتخذنا القرار بالانسحاب من أفغانستان.

نحن في إيقاع خاطئ في التفكير لجهة العلاقة مع الإسلام الراديكالي. في حالة الشيوعية الثورية، اعترفنا بأنها تهديد له طبيعة استراتيجية ما استدعى أن نواجهه بشكل أيديولوجي إلى جانب اتخاذ إجراءات أمنية حياله. وقد دام هذا التهديد لأكثر من 70 عاماً. وطوال تلك المدة، لم نكن نحلم على الإطلاق بالقول، “حسناً، لقد كنا نعمل على هذا لفترة طويلة، ويجب إذاً أن نتخلى عن هذه المسألة”.

كنا نعرف أننا نحتاج إلى الإرادة، والقدرة على الاستمرارية حتى نتمكن من تحقيق ذلك. كانت هناك ساحات شتى للصراع والانخراط، وأبعاد شتى، وقلق له مستويات مختلفة بما يتناسب مع المد والجزر للتهديد، بيد أننا تفهمنا أنه كانت تهديداً حقيقياً، وقد تتحالفنا مع بلدان وجهات كي نتعامل معاً مع التهديد.

وهذا ما ينبغي بنا أن نقرر فعله الآن مع الإسلام الراديكالي. هل هو تهديد استراتيجي؟ إذا كان كذلك، كيف يمكن لمناهضي الإسلام الراديكالي، بمن فيهم المسلمون الذين يعارضونه من الداخل، أن يتحدوا جميعاً لدحره؟

لقد تعلمنا سلفاً مخاطر التدخل بالطريقة التي تدخلنا بها في أفغانستان والعراق وليبيا، لكن عدم التدخل، هو أيضاً سياسة لها تداعياتها.

والسخيف في الأمر هو الاعتقاد أن الاختيار قائم بين ما فعلناه في العقد الأول الذي أعقب 11/9 وبين التراجع الذي نشهده حالياً، وهو أيضاً التعامل مع التدخل العسكري على المستوى الشامل الذي قمنا به في نوفمبر 2001، كما لو كان من الطبيعة ذاتها لمهمة التأمين والدعم التي تمت في أفغانستان خلال الفترة الأخيرة.

يمكن للتدخل أن يأخذ أشكالاً عدة. وعلينا أن نقوم به في ضوء الدروس التي تعلمناها في السنوات العشرين الماضية، أي بما تمليه مصالحنا الاستراتيجية طويلة المدى، وليس على أساس سياساتنا قصيرة المدى، بيد أن التدخل يستدعي الالتزام، وألا تكون مقيداً زمنياً ببرامج زمنية سياسية، بل القيام بما يقتضيه تحقيق الأهداف.

تعد هذه أسئلة حادة بالنسبة لبريطانيا والولايات المتحدة. ويؤدي على نحو واضح غياب الإجماع والتعاون بين الأطراف كلها، والتسييس العميق للسياسة الخارجية وقضايا الأمن، إلى أفول القوة الأميركية. وعلينا أن نقوم ببعض التفكير الجدي بالنسبة لبريطانيا الموجودة حالياً خارج أوروبا، والتي تعاني أيضاً بسبب إنهاء أعظم حلفائنا مهمة أفغانستان من دون إجراء استشارات تذكر معنا. ومع أننا لا نرى هذا التهديد حتى الآن، فإننا مهددون بالنزول إلى (دوري) الدرجة الثانية للقوى العالمية. ربما لا مانع لدينا في ذلك، غير أننا يجب على الأقل أن نأخذ نحن القرار بهذا الخصوص بصورة متعمدة. يوجد بالطبع عدد من القضايا المهمة الأخرى على المستوى الجيوسياسي حالياً، مثل “كوفيد-19″، والمناخ، وصعود الصين (على المسوى العالمي)، والفقر، والمرض والتنمية.

لكن، تأتي قضية ما في بعض الأحيان لتأخذ بعداً ما، أوسع من معناها في حد ذاتها، فتصبح بمثابة تعبير استعاري ودليل على واقع الأمور والشعوب.

إذا كان الغرب يريد أن يرسم معالم القرن الحادي والعشرين فسيتوجب عليه أن يكون ملتزماً بتعهداته في السراء والضراء، حين يكون الأمر صعباً، وعندما يصبح سهلاً أيضاً. وعليه ضمان أن يتمتع الحلفاء بالثقة، وأن يتحلى الحلفاء بالحذر. كما يجب بناء السمعة بالثبات واحترام الخطة التي بين أيدينا وبالمهارة في تطبيقها.

سيتطلب هذا من بعض فئات اليمين السياسي أن تفهم أن العزلة في عالم مترابط مآلها الفشل، كما يقتضي من فئات اليسار أن تقبل أن التدخل يمكن أن يكون ضرورياً لإعلاء شأن قيمنا.

ويتطلب هذا منا أن نتعلم الدروس من الـ20 سنة الماضية التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر بروحية التواضع، ومن خلال تبادل وجهات النظر على نحو ينم عن الاحترام، على أن يتم ذلك أيضاً مع الإحساس بإعادة اكتشاف أننا في الغرب نمثل قيماً ومصالح تستحق الفخر بها والدفاع عنها.

وينبغي أن يحدد هذا الالتزام بقيمنا ومصالحنا، وسياساتنا، لا أن تحدد سياساتنا مدى التزامنا.

هذا هو السؤال الاستراتيجي الكبير الذي طرحته الفوضى العارمة في أفغانستان في الأيام الأخيرة، وستعتمد نظرة العالم لنا ونظرتنا لأنفسنا على الجواب.

*توني بلير مؤسس ورئيس مجلس الإدارة التنفيذي لمعهد التغيير العالمي، ورئيس وزراء بريطاني أسبق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button