“طفولة على أرجوحة الزّمن”
وداد رضا الحبيب
النشرة الدولية –
جسدي علّتي الأولى. أليس كذلك سيّدي؟
ليتني روحٌ بلا جسد. أسافر بين البساتين أقطف السلام وأغنّي للطبيعة الخالدة. ليتني حلمٌ لا ينتهي. ليتني نبضٌ لا يعرف للخوف معنى أو سبيلا.
خرجت أخيرا من منزلي لأعانق جارتنا وأهديها ملابس الطفولة المغتالة فينا. تلك الطفلة التي لم تكبر يوما. كبر جسد جارتنا صارت امرأة ولكن دميتها لم تهجرها ولم تغادر حديقتها الورديّة حيث الورود الناعمة والماء الزلال وأرجوحة الزمن ترفض نواميس العالم. حديقتها أبوابها زقزقة الطيور .تحرسها غمامات البراءة في عيون الطفولة الأولى.
تلك جارتنا سيّدي. حالمة كقصيدة. صامتة كالقمر. حزينة كصدرِ بيتٍ هجرهُ العجزُ.
أخذت معي صورتها لتكتمل اللّوحة السرمديّة. أنا وجارتنا والطفولة الهاربة فينا معا سنفرح بهديتنا علّها تعيد انبعاثنا من جديد.
كطيف يستجدي الحياة خرجتُ مهرولة فاستوقفني ضجيج وحركة غير معتادة أمام منزلها. سمعت بعض كلمات يتخطّفها الفزع “ماتت… من قتلها؟… انتحرت… لماذا؟..”
سيّارة الإسعاف وسيّارة شرطة تملآن المكان كغول يهجم على أحلامي. صعقتُ وهويتُ في ثغر الحزن. لم أستطع إدراك ما يحصل. من هؤلاء؟ يغتالون حتّى الموت. يقتلون حتّى الصّمت ويبعثرون المعنى.
رحلت جارتنا سيّدي. هكذا… فجأة… كيف سمحت لها؟
رأيت صرحا يهوي وآخر سيظلّ شاهقا ما دام الليل والنهار. قد يفنى الجسد. وحدها الأفكار تحلّق عاليا تستعصي على الزمان وتسخر من حدود المكان. وحدها المعارك الحقيقيّة تبني قلاعا وتنسج جسورا وتنحت المدى للباحثين عن المعنى في زمن التّيه.
توفّيت جارتنا. سيبقى صمتها صارخا وستبقى الذكريات كالرّنين تسابق نبض الزمن وكالرصاص تغتال الظّلم. مات الحنين للصّمت والسّكون في محراب المعنى. اغتيل الفجر وانزوت الشمس وراء تلال الحزن. حزينة أنا لموتك يا جارتنا. كيف رحلتِ هكذا؟ وماذا عنّي؟ كيف سأتحمّل ثقل الوقت وضيق المكان. يا جارتنا أنتِ منّي فكيف ترحلين دوني؟
وقعت عليّ الأسئلة كالصاعقة. من أنا؟
نظرت إلى يديّ فلم أرَ غير يدين شاحبتين لجارتنا. اقتربت من رجال الشرطة والمتحلّقين حول سيارة الاسعاف. لم ينظر إليّ أحد. صرختُ عاليا: “ابتعدوا عنها. لا تلوّثوا سُكونها بكلماتكم الحارقة عن الانتحار والحلال والحرام.”
لم ينتبه لكلماتي ولا لصوتي يشقّ المدى أحد. كانت صاحبة الدكّان هناك. تنسج قصصا من خيالها . تكثر من الضجيج وتملأ المكان بنشازها. أمام الموت لا يجوز إلاّ الصّمت. والانتحار إبحار يا جارتنا.
أخرجوها فأخرجوني. مضوا بها في سيارة الإسعاف. لا أدري إلى أين فاختطفني الفراغ وارتفعت إلى حيث قدري تاركةً ورائي جسدي. وحدها صورة الطّفولة المغتالة فينا بقيت مرميّةً على الأرض تدوسها أحذية المارين من دهاليز حياتنا. تحكي للقارئ لوعة الرّوح تحترق من وقع الصّمت في مقبرة بلا نوافذ.
________________________
من كتاب “محراب في كفي”
عن دار الكتاب للنّشر والتوزيع