الهزيمة وخفايا لعبة «الكاهن والشيطان» من طرابلس إلى كابل

النشرة الدولية –

الثأئر نيوز –

اكرم كمال سريوي –

يبدو الكلام عن هزيمة أمريكا في أفغانستان تسطيحاً ساذجاً للأمور وتبسيطاً في غير محلّه للواقع وتجاهلاً لحقيقة ما جرى ويجري في أماكن عديدة من العالم ، فكلنا يعلم حقيقتين ثابتتين في التاريخ السياسي والعسكري.

الأولى : أن الحقيقة تبقى مدفونة في الاتفاقات والخطط السرية لسنوات قبل أن يتم الكشف عنها للعلن .

والحقيقة الثانية: أن كل ما يتم إخراجه إلى العلن يكون مقصوداً وله غايات وتوظيفات محددة تستهدف الرأي العام، لإخراج صورة معينة عادةً ما تكون مُضلِّلة بُغية صرف النظر عن حقيقة ما يحدث .

البحث عن عدو !!!

بعد فشل الانقلاب العسكري الشيوعي في موسكو الذي قاده غينادي ياناييف ودمتري يازوف في ١٩ آب ١٩٩١، اجتمع في ٢١ كانون الأول ١٩٩١ في عاصمة كازاخستان ألما آتا رؤساء ١١ جمهورية سوفياتية كانت قد أعلنت انفصالها عن الاتحاد السوفياتي ، وقرروا إنشاء رابطة الدول المستقلة، وبعد أسبوع في ٢٨ الشهر أعلن الرئيس الثامن للاتحاد السوفياتي ميخائيل غربتشوف خطاب استقالته وحل مكتب السوفيات الأعلى، فتم إنزال العلم السوفياتي للمرة الأخيرة عن سارية الكرملين، لينتهي بذلك الاتحاد السوفياتي ومعه الحرب الباردة، وتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العالم بزعامة أمريكية آحادية، ولن ندخل هنا في أسرار وتفاصيل ما حصل وما كشفت عنه تقارير المخابرات، وسندعه لمكان آخر ، وفقط سنلقي الضوء الآن على تبعات ما حدث .

فقد الأمريكيون بانهيار الاتحاد السوفياتي الفزّاعة التي أرهبوا بها العالم الغربي وحلفاءهم خاصة ألأغنياء منهم طيلة سنوات ، فلقد زال الخطر الشيوعي الذي مثّل مادة دعائية دسمة كخطر داهم يهدد المُلكية الفردية ومصادرة أموال وممتلكات المواطنين، لصالح ديكتاتورية البروليتاريا المزعومة التي تقبض عليها ثلة من الزعماء السلطويين المتشددين، وهذا ما جعل العالم بغالبيته ينظر إلى الشيوعية السوفياتية بعين العداء، أولاً كحركة مُلحِدة تُناقض تعاليم كافة الأديان، وثانياً كسلطة قَمعٍ للحرية والتعددية الحزبية ، ومُصادِرة لأي نوعٍ أو شكلٍ من أشكال الملكية الفردية.

بعد سقوط الخطر السوفياتي لم يعد العالم بحاجة إلى حماية أمريكية مزعومة، وبعد عدة سنوات بدأ التراخي يدخل إلى عصب الجيوش الغربية، وحتى الأمريكيين توقفوا عن تطوير أسلحة جديدة، وكاد حلف الأطلسي يتفكك كنظيره حلف وارسو الذي كان يتزعمه الاتحاد السوفياتي، لكن إكسير الحياة جاءه هذه المرة من عدو خفي أكثر رعباً، إنه «الإرهاب الأصولي» .

التفجير الغامض!!!

نهار الثلاثاء 11 ايلول 2001 استولى إرهابيون على أربع طائرات ركاب في الولايات المتحدة الأمريكية، استخدموها كصواريخ متفجرة، وفي الساعة 08,46 ضربت الطائرة الأولى البرج الشمالي في مركز التجارة العالمي في نيويورك، ثم تلتها طائرة ثانية اصطدمت بالبرج الجنوبي الساعة 09,03 ، وللمصادفة الغريبة فإن الجيش الأمريكي وبعد علمه بالضربتين لم يتخذ أي احتياطات، فضربت ودمرت طائرة ثالثة الواجهة الغربية لمركزه الرئيسي مبنى البنتاغون عند الساعة 09,37 ، لتضع بذلك الف علامة استفهام حول تلك العمليات الإرهابية ومَن وراءها !!!؟؟؟

تم اتهام تنظيم القاعدة بتنفيذ الهجمات، لكن من دون أي دليل . هذه الجماعة الإسلامية الأصولية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية من قَبل، وقدّمت لها كل الدعم لمحاربة السوفيات في أفغانستان، باتت مصدر الخطر الأكبر وربيب الإرهاب العالمي، ليتم بعد ذلك شيطنة الإسلام وإلباسه ثوب الأصولية والإرهاب.

عدو خفي قد يضرب في أي مكان في العالم، يحتاج إلى تكثيف جهود الدول الغربية لمكافحته، وتوسعة حلف الناتو لينضوي تحت قيادة أميركا أكبر عدد ممكن من دول العالم، خاصة تلك التي كانت في حلف وارسو السوفياتي السابق في شرق أوروبا لإبعادها عن روسيا . وكلما خَفَتَ صوت الإرهابيين في مكان، يتم تقديم المال والسلاح الكافي لهم ليبرزوا في مكان آخر، أكثر شراسة وأشد هولاً، بدءاً من الصومال إلى باريس، ومن لندن إلى طوكيو، ومن ليبيا إلى سيناء والعراق وسوريا ولبنان، وصولاً إلى أفغانستان وكهوف قندهار .

خرج الجيش الأمريكي من أفغانستان لكن هل هُزم فعلاً ؟؟؟

أنصح من يعتقد ذلك أن يقرأ قصة «الشيطان والكاهن» لجبران خليل جبران وهي باختصار تروي كيف كان الكاهن يُحذّر دائماً أهل القرية من الشيطان، وعندما التقاه جريحاً داخل الغابة أراد الكاهن تركه يموت، فأخبره الشيطان أن أهل القرية إن علموا بموته لن يخافوا بعد ذلك من شيء، ولن يأتوا إلى القدّاس في الكنيسة ، ولن يدفعوا الذهب للكاهن، فحمل عندها الكاهن الشيطان على ظهره تحت جنح الظلام وأخذه إلى بيته ليشفيه، متذرّعاً بمحبة البشر وحرصه على دفعهم للعبادة والصلاة، فانقذه من الموت ليحافظ هو على سلطته على أهل القرية .

الاستراتيجية العسكرية:

إن كل جيوش العالم تبني استراتيجيتها العسكرية على وجود عدو مفترض، وعلى هذا الأساس تَضع الخطط وتقوم بالتدريبات لتبقى في أعلى درجات الجهوزية للقتال، وفي حال غياب الخطر سيدخل الكسل إلى مضاجع العسكريين، وسينصرف قادتهم للّهو والبحث عن الملذات ، ويتحول أفرادها من مقاتلين إلى أمراء وكشّافة مُترَفين ، وستعمد الحكومات إلى تخفيض ميزانية الدفاع، واستعمال هذه الأموال في مشاريع تنموية أُخرى.

إنها الحاجة المُلحّة إلى وجود عدو، وكلما كانت الفزّاعة أكبر كلما أصبح تبرير الإنفاق العسكري أسهل.

آلاف مليارات الدولارات تُنفق سنوياً على الجيوش في العالم، وتحتل تجارة الأسلحة لدى بعض الدول المتقدمة المرتبة الأولى في سلم الصادرات، فيما تُخصص الدول المتخلفة القسم الأكبر من إنتاجها وأموالها لشراء السلاح، وتُغفل في المقابل أي أعمال وجهود حقيقية لتطوير الإدارة والاقتصاد .

الاقتصاد والإنفاق العسكري!!!

لقد أنفق العراق خلال فترة حكم صدام حسين أكثر من ٤٠٠ مليار دولار على القوات المسلحة فبلغ حجم استيراد الأسلحة خلال الحرب على ايران ١٠٢ مليار دولار ، أما مجمل الانفاق العسكري بين ١٩٨٠ و ١٩٨٥ فبلغ ١٢٠ مليار دولار، في حين بلغت عائدات النفط العراقي في تلك الفترة ٤٧ مليار دولار فقط ، فتم سد العجز بالقروض والمساعدات من الدول الخليجية، الأمر الذي أدى إلى إنهاك الأقتصاد العراقي، فتراجع الدخل الفردي من ٤٠٠٠ دولار عام ١٩٨٠ إلى ٤٠٠ دولار عام ٢٠٠٣ .

فهل يمكن أن نتخيل كيف كان يمكن أن يكون العراق لو تم صرف هذه الأموال داخل العراق في مشاريع تنموية ؟؟؟

وهذا الحال ينطبق على عدة دول خاصة العربية منها، فلقد كانت موازنة الدفاع السعودية عام ٢٠١٧ ثالث أكبر موازنة في العالم ، بمبلغ تجاوز ٧٠ مليار دولار .

صحيح ما قاله الرئيس جو بايدن ، فلا حاجة للولايات المتحدة الأمريكية بعد الآن أن ترسل جنودها للحرب في أي مكان ، فيكفي أن تمد الأطراف المتحاربة بالسلاح ، والكل سيدفع ثمن هذا السلاح أضعافاً مضاعفة. ولن يجد رئيس أي دولة من دول العالم الثالث، أن مبلغ مئة مليون دولار هو ثمن باهض لمركبة طائرة من طراز F-35 أو سو -57 أو صاروخ أو بعض الدبابات والآليات العسكرية وغير ذلك، في حين أن هذا المبلغ سيكون كافياً لإنشاء عشرات؛ مصانع الأدوية، والمستشفيات، والجامعات .

ثروات طائلة وشعب فقير

تُقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن أفغانستان تملك ١،٦ مليار برميل من النفط، و ٤٤٠ مليار متر مكعب من الغاز ، إضافة إلى كميات كبيرة من المعادن كالذهب والليتيوم، وثاني أكبر أحتياط في العالم من النحاس، و ٢،٢ مليار طن من الحديد، وهي تمتلك ١،٤ مليون طن من العناصر الأرضية النادرة، و ٥ مناجم للذهب ، وأكثر من ٤٠٠ نوع من الرخام، وكميات كبيرة من البريليوم تُقدّر بحوالي ٩٠ مليار دولار، وتجني سنوياً قرابة ٢٠٠ مليون دولار من بيع الأحجار الكريمة، كما تنتشر في أفغانستان زراعة وتجارة المخدرات، ورغم كل ذلك يعيش الشعب الأفغاني البالغ حوالي ٣٩ مليون نسمة ويزداد سنوياً بشكل مطّرد بحوالي ٩٠٠ الف نسمة، في حالة من الفقر المدقع، بحيث لا يزيد مدخول بعض العائلات عن ٢ دولار يومياً .

كل هذه الثروات الواقعة على طريق الحرير تأمّنت ظروف ملائمة لاستخراجها في ظل وجود الجيش الأمريكي سابقاً، لكن دخول الشركات الصينية على خط المنافسة أفسد الأمر على الشركات الأمريكية وجعلها تنكفئ، خاصة في ظل وجود تهديد حركة طالبان، وقامت الحكومة الأفغانية السابقة بتأجير منجم النحاس«أيناك» إلى الصين لمدة ٣٠ سنة، وحسب التوقعات كان يمكن أن تجني أفغانستان ١،٢ مليار دولار سنوياً من الرسوم والضرائب المترتبة على هذا المشروع.

كل هذه الثروات باتت الآن تحت سيطرة حركة طالبان، إضافة إلى العبث بطريق الحرير الصيني، وسيتم تسخيرها لتصدير الثورة السنية الأفغانية، ودعم الحركات الجهادية، ولن تبقى روسيا والصين ودول جنوب روسيا الاسلامية المحيطة بافغانستان بعيدة عن تأثير ذلك، وما شهدته هذه الدول وموسكو تحديداً ، من تحرك للمتطرفين في الشهرين الماضيين يُعطي فكرة واضحة عما يُخطَّطُ له مستقبلاً.

معاقبة القادة المشاغبين!!!

عندما رفض معمر القذافي بيع شركة النفط الوطنية الليبية، وتراجع عن اتفاقه مع ساركوزي لشراء طائرات رافال الفرنسية الباهضة الثمن، ورفض خصخصة النفط الليبي للشركات الأمريكية، أشعلوا الثورة ضده، ولاحقته الطائرات الفرنسية حتى قُتل في الصحراء، والآن يكفي أن يقتتل الليبيون كقبائل، ويبيعون النفط لشراء مزيد من السلاح، ولينهب العراقيون خيرات بلادهم، ويحرقوها في عداء مفتعل بين السنة والشيعة والأكراد، وهكذا أيضاً باتت سوريا خراباً، وجماعات حاقداً بعضها على بعض تستنبط الغرائز الأثنية والمذهبية، أما في لبنان فلا حاجة لأن يُتعب الغرب نفسه، فهنا موئل فساد الحكام ومنبع الصراعات المذهبية والطائفية .

سيتكفّل أحمد مسعود في أقليم بنجشير شمالي أفغانستان، بإبقاء السيف مسلولاً في وجه طالبان، حتى تنفيذها كافة بنود الاتفاق مع الأمريكيين ، وسيبقى عناصر القاعدة ينشطون على الحدود الجنوبية الشرقية، لتنفيذ مهامهم خارج سلطة ومسؤولية طالبان، في خدمة مشاريع «الفوضى الخلّاقة»، أما الشيء الوحيد الذي سيبقى بعيداً عن المنطقة فهو السلام والإزدهار والاستقرار .

فهل أنت تعتقد حقاً، أن خروج الأمريكيين من أفغانستان وتسليمهم السلطة لطالبان هزيمة لهم ؟؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى