عن آفاق السلام العالمي: حوار مع نعوم تشومسكي
بقلم: جون راشيل
النشرة الدولية –
تتكشف الأحداث العالمية بوتيرة متسارعة. وفي مواجهة تصعيد ينذر بالخطر للتوترات في مختلف أنحاء العالم، نتطلع إلى قادة الفكر الأكثر احترامًا وشهرة لدينا للحصول على تقييم صادق للسياسة الخارجية والعسكرية للولايات المتحدة، وتقديم أحدث أفكارهم ورؤاهم بشأن التطورات. ونحن على ثقة بأن لديهم بعض الأفكار التي يقترحونها لتحسين آفاق السلام.
لا يحتاج نعوم تشومسكي إلى تقديم. فقد كرس حياته كلها لانتقاد وتعرية إساءة استخدام السلطة والقوة، وتجاوزات الإمبريالية الأميركية. وبعمر 92 عاماً، ما يزال تشومسكي يشارك بنشاط في الحوار الوطني. ويشرفنا بالطبع أن يمنحنا الوقت للتحدث إلينا ومشاركة آرائه معنا.
ليست الأسئلة المطروحة في هذا الحوار فلسفية أو مجردة. إنها تركز على حقائق الصراع الدولي على السلطة والنفوذ الذي يتكشف في الوقت الحقيقي. وهي تتناول بشكل مباشر دور الولايات المتحدة في تصعيد التوترات وقدرتها على الحد منها. كما أنها تتعقب الدور الذي يمكن أن يضطلع به المواطنون العاديون في التأثير بالعلاقة التي تربط الولايات المتحدة الآن، والتي سترتبطها مستقبلاً، ببقية المجتمع العالمي.
وكان هذا ما قاله نعوم تشومسكي:
وضعَت نشرة علماء الذرة مؤخرًا عقارب ساعة يوم القيامة عند 100 ثانية قبل “منتصف الليل”. ويعني حلول “منتصف الليل” حربًا شاملة -ربما محرقة نووية. وهذا هو الوقت الأقرب لقدوم هذه الساعة على الإطلاق. هل توافق على هذا التقدير الرهيب والقاتم؟
- تقييم صحيح للأسف. وقد استشهد محللو نشرة علماء الذرة بثلاثة تهديدات رئيسية متزايدة: الحرب النووية؛ والدمار البيئي؛ وما أطلق عليه البعض اسم “الوباء المعلوماتي”، الانخفاض الحاد في الخطاب العقلاني -الذي يشكل الأمل الوحيد لمعالجة الأزمات الوجودية.
في كل عام قضاه ترامب في السلطة، كان عقرب الدقائق في ساعة يوم القيامة يقترب من منتصف الليل. وقبل عامين تخلى المحللون عن الدقائق وتحولوا إلى عقرب الثواني. وقد صعَّد ترامب بثبات جميع هذه التهديدات الثلاثة. يجدر تأمل مدى اقتراب العالم من كارثة لا توصف في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. كان يمكن أن تكون لأربع سنوات أخرى من اندفاع ترامب نحو الهاوية عواقب لا حصر لها. وبطبيعة الحال، لا يرى الذين يعبدونه الأمور بهذه الطريقة، لكن الشيء نفسه ينطبق، بطريقة مدهشة، على قطاعات من اليسار. في الواقع، تتجنب مداخلات الليبرالية المتعلقة بإساءاته إلى حد كبير ذكر جرائمه الكبرى وتلتف عليها. والأمر يستحق التفكير عندما ندرك أنه هو، أو مستنسخ ما عنه، قد يستعيدون قريبًا أدوات السلطة. كما يجدر التفكير أيضاً في التحذيرات التي أطلقها آلاف العلماء من أننا نقترب من نقطة تحول لا رجعة فيها بشأن تدمير البيئة. ويمكننا أن نقرأ كل شيء عن هذا في “الجزيرة”.
تصوِّر الولايات المتحدة نفسها دائمًا على أنها القوة الأعظم على هذا الكوكب من أجل السلام والعدالة وحقوق الإنسان والمساواة العرقية، إلخ. وتخبرنا استطلاعات الرأي أن معظم الدول الأخرى تعتبر الولايات المتحدة في الواقع أكبر تهديد للاستقرار. ما الحقيقة هنا برأيك؟
- حتى خلال سنوات حكم أوباما، أظهرت استطلاعات الرأي الدولية أن الرأي العام العالمي يعتبر الولايات المتحدة أكبر تهديد للسلام العالمي، ولا يوجد بلد آخر يقترب حتى مجرد اقتراب منها في ذلك. كان الأميركيون محميين من الأخبار، على الرغم من أن بوسع المرء أن يعرفها من وسائل الإعلام الأجنبية والمصادر المعارِضة. وفي بعض الأحيان يتم نشر الشروحات والرسوم التوضيحية. وهكذا، كانت هناك بعض الإشارات إلى تصويت الأمم المتحدة الأخير لإدانة العقوبات الوحشية المفروضة على كوبا، التي تشكل حصارًا تقريبًا: 180 إلى 2 (الولايات المتحدة وإسرائيل). وقد شجبت صحيفة “نيويورك تايمز” هذا باعتباره فرصة لمنتقدي الولايات المتحدة لإطلاق زخمهم. وهذا طبيعي جدا. عندما تكون هناك تقارير عن كيفية خروج العالم عن إيقاعه، فإن الإطار المعتاد هو التعبير عن الفضول إزاء الأمراض النفسية التي تؤدي إلى مثل هذا الفشل المرَضي في التعرف إلى مدى نبلنا.
ليس هناك ما هو جديد في هذا الموقف. إنه نمطي للثقافات الإمبريالية. وقد تساءل، حتى شخص كان شخصية بارزة، مثل جون ستيوارت ميل، عن فشل العالم في إدراك أن بريطانيا كانت قوة ملائكية، والتي تضحي بنفسها من أجل صالح العالم -في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا ترتكب بعضًا من أفظع جرائمها، كما كان يعلم جيداً.
إليك سؤال من نوع “البيضة أم الدجاجة”: تتهم الولايات المتحدة كلاً من روسيا والصين بتوسيع قدراتهما العسكرية بسرعة مطّردة، مدعية أن تعرُّضها وزيادة أسلحتها هما رد على خصميها العدوانيَّين، روسيا والصين. وتدعي كل من روسيا والصين في المقابل بأنهما تردان فقط على التخويف والتهديدات العسكرية التي تشكلها الولايات المتحدة. ما رأيك في هذا؟ هل لدى روسيا والصين طموحات إمبريالية أم أنهما تحاولان الدفاع عن نفسيهما فحسب ضد ما تعتبرانه جيشًا أميركيًا يزداد جسارة وعدوانية باطراد؟
- قد يكون سرد بعض حقائق الخلفية مفيداً. وفقًا للمراقب الدولي الرئيسي المستقل للأمن العالمي، “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” SIPRI، فقد “تأثر النمو في إجمالي الإنفاق (العسكري) في العام 2020 إلى حد كبير بأنماط الإنفاق في الولايات المتحدة والصين. وقد زادت الولايات المتحدة من إنفاقها العسكري للعام الثالث على التوالي ليصل إلى 778 مليار دولار في العام 2020″، مقارنة بزيادة إنفاق الصين إلى 252 مليار دولار (أقل بكثير من حيث نصيب الفرد بطبيعة الحال). وفي المرتبة الرابعة، بعد الهند، جاءت روسيا: 61.7 مليار دولار.
الولايات المتحدة وحدها لا تواجه أي تهديدات أمنية حقيقية موثوقة، باستثناء التهديدات المزعومة التي تتعرض لها على حدود المنافسين، المحاطين بصواريخ أميركية مسلحة نوويًا في بعض القواعد العسكرية الأميركية البالغ عددها 800 في جميع أنحاء العالم (لدى الصين قاعدة واحدة، في جيبوتي). وكانت هناك جهود دولية لمنع عسكرة الفضاء الخارجي، وهي تشكل تهديداً رئيسياً للبقاء. وقد أطلقت هذه الجهود بشكل أساسي كل من الصين وروسيا، وأعاقتها واشنطن لسنوات عديدة.
ازداد عدد مهام التجسس، ورحلات القاذفات المسلحة نوويًا، والألعاب الحربية بالقرب من حدود روسيا بشكل كبير خلال العام الماضي. وحدث الشيء نفسه مع الصين. هل كل هذا مجرد تعرض جيوسياسي من نوع العمل كالمعتاد؟ أم أنه يمثل تصعيدًا خطيرًا واتجاهًا جديدًا مشؤومًا في التموضع الاستراتيجي للولايات المتحدة؟ ما مبرر ما تعتبره روسيا والصين استفزازات وعدوانية، إن لم يكن استعدادًا فعليًا للحرب؟
- هذا خطير للغاية. لقد تمت إعادة تصميم التخطيط الاستراتيجي ليتم التركيز على الحرب مع الصين وروسيا. وتم القيام بإجراءات استفزازية على حدودهما، وهي تغصّ مسبقاً بالأسلحة الهجومية الأميركية. الصين تنتهك القانون الدولي في بحر الصين الجنوبي -على الرغم من أن الولايات المتحدة، القوة البحرية الوحيدة التي لم تصدِّق على قانون الأمم المتحدة للبحار، ليست في وضع قوي للاعتراض. والرد الصحيح على انتهاكات الصين ليس استعراضًا خطيرًا للقوة، وإنما الدبلوماسية والمفاوضات، بقيادة الدول الإقليمية الأكثر انخراطًا بشكل مباشر. ويتركز التهديد الرئيسي على تايوان. ومرة أخرى، يمكن للدبلوماسية المدروسة، وليس الأعمال الاستفزازية، أن تتجنب ما يمكن أن يكون كارثيًا.
في دولة ديمقراطية، نظرياً على الأقل، يكون للمواطنين رأي في جميع مسائل السياسة العامة. ومع ذلك، في النهاية، لا يبدو أن أيًا من الحملات العسكرية الأخيرة والحروب غير المعلنة تحظى بالكثير من التفضيل أو التأييد الشعبي. ما هو، وماذا يجب أن يكون دور المواطنين العاديين في تحديد السياسة الخارجية والأولويات العسكرية للبلاد؟ أم أن من الأفضل ترك مثل هذه الأمور لـ”الخبراء”؟
- وفقًا للمادة الأولى من الدستور، يحق للكونغرس وحده إعلان الحرب. لكنّ هذا الحكم تم إرساله منذ فترة طويلة إلى سلة القمامة، إلى جانب أحكام أخرى غير ملائمة من الوثيقة التي تعلمنا أن نُجلَّها.
في أي ديمقراطية عاملة، يجب أن يكون للمواطنين الدور الأساسي في شؤون الدولة. ولكن ليس هنا. ويجب أن يكونوا مواطنين مطلعين. ولكن ليس هنا أيضاً. والحرب العالمية الأولى مثال كلاسيكي. في العام 1916، فاز ويلسون ببرنامج “سلام من دون نصر”. ثم أطلق حملة دعائية مثيرة للإعجاب لإثارة الكراهية المريرة لكل ما هو ألماني في صفوف سكان مسالمين، مدعومة بافتراءات عن فظائع الهون (1) التي ابتكرتها “وزارة الإعلام” البريطانية؛ كانت الأورويلية موجودة وعلى قيد الحياة وقبل أورويل بوقت طويل. وكان ذلك ناجحًا للغاية. ولم تكن تلك المناسبة الأولى ولا الأخيرة. ما تزال دعاية الدولة فعالة للغاية، في كل مكان نتجه إليه، معززة بوسائل الإعلام الموالية والطبقة المثقفة.
وقد ظهر مثال صارخ، بالغ الأهمية، قبل ساعات قليلة من جلوسي للكتابة: “يعتقد عدد من الأميركيين أن إيران تمتلك أسلحة نووية أكثر من الذين يعتقدون أن إسرائيل تمتلكها. وفي حين أن إسرائيل معروفة بامتلاكها أسلحة نووية منذ عقود (من دون الاعتراف بوجودها رسميًا) ولا يُعرف عن إيران أنها تمتلك أيًا منها، فإن تصور الجمهور الأميركي يفترض واقعًا مختلفًا: 60.5 في المائة، بمن في ذلك 70.6 في المائة من الجمهوريين و52.6 في المائة من الديمقراطيين، يقولون إن إيران تمتلك أسلحة نووية -مقابل 51.7 في المائة يقولون إن إسرائيل تمتلكها، بما في ذلك 51.7 في المائة من الجمهوريين و51.9 في المائة من الديمقراطيين”.
يمكن أن تكون إنجازات الدعاية غير المنقطعة مذهلة للغاية.
- مرة أخرى، تساعد وسائل الإعلام بطرق عدة. ولنأخذ حالة وثيقة الصلة، حيث انضم محررو “نيويورك تايمز” مؤخرًا إلى العالم بأسره تقريبًا، بما في ذلك إيران، في الدعوة إلى منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. ومن شأن ذلك أن ينهي التهديد المزعوم للأسلحة النووية الإيرانية ويحد بشكل جذري من التوترات الإقليمية الشديدة وبالغة الخطورة. ولكن، تم حذف شيء واحد صغير من اقتراح المحررين: إسرائيل، القوة الإقليمية الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية، بل في الواقع، مخزوناً هائلاً منها. كما تم حذف سبب عدم تنفيذ هذا الاقتراح المهم للغاية: الولايات المتحدة تمنعه، لضمان عدم التدقيق على الأسلحة الإسرائيلية الهائلة. في الواقع، ترفض حكومة الولايات المتحدة الاعتراف رسميًا بامتلاك إسرائيل أسلحة نووية، على الرغم من عدم وجود شك في ذلك. ولو فعلت، فقد يصبح القانون الأميركي قابلاً للتطبيق، ويمكن القول إنه سيحظر جميع المساعدات التي تقدمها أميركا لإسرائيل.
وبذلك، من الأفضل أن لا يعرف الناس أن حياتهم مهددة من أجل حماية مخالفات إسرائيل وتواطؤ الولايات المتحدة فيها.
يتصل بذلك أنه يتم إبقاء المواطنين ومعظم أعضاء الكونغرس في الظلام عندما يتعلق الأمر بالمهمات الخاصة، والتمويل بالوكالة، وعمليات وكالة المخابرات المركزية، ومساحات من المجهولات التي تضم العمليات النفسية، والعمليات الإلكترونية، وعمليات تغيير النظام، وكل ذلك يتم باسمنا كمواطنين أميركيين. ومصدر الأموال التي تدعم هذا “العالم المظلم” المترامي الأطراف من التخريب والإرهاب الذي يلحق ببقية الكوكب، هو أيضا سر. الآن هناك تجسس شامل على المواطنين الأميركيين هنا في الوطن. أي مكان لأي من هذا في “أرض الأحرار”؟ هل هذا يعني حكومة الشعب، من الشعب، لأن الشعب مجرد خدعة؟
- إذا تركناه يصبح كذلك. في المقطع الافتتاحي لواحد من أوائل الأعمال الحديثة الرئيسية في العلوم السياسية، أشار رجل حكيم -ديفيد هيوم- إلى أن “السلطة في أيدي المحكومين”. إذا اختاروا ممارستها. وإذا ذهبوا إلى تولي زمام الحكم بأيديهم في “كومنولث تعاوني”، من النوع الذي كان يطمح إليه العمال والمزارعون الأميركيون في أواخر القرن التاسع عشر. وإنما الذي سحقه عنف تحالف الدولة-الأعمال.
*نود أن نعرب عن امتناننا لنعوم تشومسكي على آرائه التي دائماً ما تحرض التفكير. قام بالترتيب لهذه المقابلة جون راشيل، مدير مشروع Peace Dividend Project. وتتبنى هذه المبادرة استراتيجية قوية وغير مسبوقة وشاملة لتحدي استبداد دعاة الحرب من المحافظين الجدد في واشنطن العاصمة، وإنهاء الحروب التي لا نهاية لها، ونبذ السياسة الخارجية المدمرة للذات والنموذج العسكري الذي يسمم الآن علاقات الولايات المتحدة مع بقية دول العالم.
*نشر هذا الحوار تحت عنوان: What are the Prospects For Peace: an Interview With Noam Chomsky
هامش:
الهون Hun: هم مجموعة قبائل أصلها أوراسي، تنقل أفرادها في الجهة الغربية من فيافي آسيا في العام 350. وبفضل أسلحتهم وأساطيلهم المتطورة للغاية مقارنة بالفترة التي عاشوا فيها وسرعتهم العالية وتكتيكات الحرب الفائقة، تمكنوا من طرد الأقوام التي اعترضت طريقهم أو ضموها تحت سلطتهم، واحتلوا تقريباً أوروبا تقريباً. وقد قلبت هذه التحركات الضخمة التي تكونت بضغوط الهون بنية أوروبا الاجتماعية والثقافية والديموغرافية رأسا على عقب وكانت أيضا إيذانا بهجرة الأقوام التي شكلت أسس بنيتها الحالية. وقد أنشأت قبائل الهون إمبراطورية في أوروبا تسمى في مدونات التاريخ بـ”إمبراطورية الهون الأوروبية”، أو امبراطورية الهون الغربية.