بين المبادرات الإماراتية وقمة بغداد
بقلم: تاج الدين عبدالحق
النشرة الدولية –
قد يكون من المبكر الرهان على بعض المبادرات والاتصالات التي جرت مؤخرا، للاستنتاج بأن التعاون الإقليمي يستعيد زخمه وعافيته، وأنه يحقق انفراجا بعد عقود من الانتكاسات، والخلافات، بل والحروب البينية التي حولت المنطقة إلى ميدان للصراعات الدولية، وإلى ساحة ساخنة لتأكيد النفوذ.
ومع أن بعض مظاهر تحسن المناخ الإقليمي، كانت مفاجئة، ومحاطة بالشكوك، إلا أن بعض التطورات، مهدت لهذه الانفراجات، ووضعتها في سياق تحول ملحوظ في المزاج الدولي، والإقليمي، وضمن تغير ملموس في شكل الصراع وساحاته.
ويمكن القول إن سياسة الانكفاء التي نادى بها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والتي أظهرت تراجع اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط كأولوية من أولوياتها، هي التي شكلت إرهاصات مبكرة للانتباه، إلى ذلك التحول، وإلى السعي للبحث عن بديل للوجود الأمريكي المباشر، الذي راهنت عليه دول المنطقة كضمانة أمن، ودرع حماية.
صحيح أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، انقلبت على الإستراتيجية الأوبامية – إن جاز التعبير- إلا أنها لم تنجح في تبديد الشكوك بمدى جدية التزام واشنطن تجاه المنطقة، خاصة بعد رفع تلك الإدارة شعار أمريكا أولا، وإصرارها على إستراتيجية التحالفات مدفوعة التكاليف.
وقد تعززت تلك الشكوك، بعد ذلك، بالفشل الأمريكي في كبح جماح النفوذ الإيراني في العراق، وتحول الوجود الأمريكي هناك إلى عبء سياسي وأمني مزدوج تتوزعه الإدارة الأمريكية من جهة، والحكومات العراقية من جهة ثانية، وخصوصا بعد الفشل في منع إيران من استباحة الساحة العراقية، وتحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات في الداخل العراقي حينا، وفي الإقليم حينا آخر.
هذا الفشل تكرر أيضا في سوريا، التي صارت ميدانا مفتوحا، تتنافس فيه قوى محلية وإقليمية على مصالح ضيقة، ومكاسب سياسية محدودة.
وكانت ثالثة الأثافي ما حصل مؤخرا في أفغانستان، والذي صب الكثير من الزيت على أوضاع إقليمية متفجرة أصلا؛ بحيث بات التعامل المنفرد، والأحادي مع هذه المتغيرات صعبا، خاصة وأن التطورات كانت متسارعة، والاتصالات بين القوى المعنية مقطوعة أو مرتبكة.
لم يكن لدى أي من الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة، أو المتأثرة بالحالة المتفجرة، وصفات جاهزة للخروج من هذه الدوامة، التي غابت فيها المخارج والحلول؛ فعلى مدى عقود من المواجهات، والتدخلات الدولية، لم يتحقق للمنطقة ما كانت تسعى إليه من أمن واستقرار إقليمي.
كما أن محاولات صياغة أنظمة للتعاون بين دول المنطقة ظلت محكومة بأجندات سياسية، وإيديولوجية، شلت الجهود من أجل بناء صيغ تعاون مستقرة قادرة على التطور والنمو. كما أنها فشلت في احتواء الخلافات التي كانت تنشأ بين هذه الدول، والتي كانت دول المنطقة تدفع ثمنها كفرص ضائعة، أو تستنزف مواردها البشرية وإمكانياتها المادية.
وفي إطار البحث عن بديل لدور واشنطن المتراجع، وكردة فعل على التطورات الإقليمية المتسارعة، شهدت الأسابيع القليلة الماضية تحركا سياسيا ودبلوماسيا، واتصالات؛ بهدف احتواء المخاطر الأمنية والأزمات السياسية والاقتصادية التي تهدد الإقليم، وذلك من خلال اللجوء إلى مقاربة جديدة، قائمة على فكرة بناء شبكة من المصالح الإقليمية الإستراتيجية، التي يمكن أن تشكل ضمانات لبناء أساس متين لأمن المنطقة على المديين المتوسط والبعيد.
وهنا يمكن التوقف عند تطورين مهمين، أولهما المبادرات الإماراتية والتي تجلت في الزيارات التي أجراها مستشار الأمن الوطني الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان لكل من مصر والأردن وقطر وتركيا، والتي تلاها لقاء الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة مع أمير قطر، والاتصال والمحادثة الهاتفية التي أجراها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومع أن المعلومات التي رشحت عن هذه الاتصالات كانت فضفاضة، إلا أنها توحي بأنها تؤسس لعلاقة شراكة يمكن أن تكون لها تجليات سياسية على شكل حلول لقضايا إقليمية، من أبرزها الأوضاع في سوريا؛ بحيث يتحول الدور التركي هناك من عنصر من عناصر الأزمة، إلى قوة دفع للجهود الرامية إلى إخراج سوريا من محنتها، وتنقية ساحتها من القوى المتطرفة التي تعيق الوصول إلى حلول سياسية مقبولة من كل الأطراف.
أما التطور الثاني فهو مؤتمر بغداد الذي شهد حضورا عربيا لافتا، أسس كما هو مؤمل، لمقاربة جديدة في التعامل مع العراق، لا باعتباره ميدانا للصراع وساحة للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية فقط، بل أرضا واعدة لفرص من التعاون الإستراتيجي الذي يستعيد العراق من خلاله دوره العربي والإقليمي، ويخرجه من عزلته ويعيده لعمقه العربي، ويوقف استنزاف وهدر موارده الهائلة، ويعمل على استثمارها بما يعود عليه وعلى المنطقة ككل بالخير، ويمنع في نفس الوقت من توظيف أزماته الاقتصادية والاجتماعية للاستفراد به كساحة للنفوذ السياسي والطائفي.
وفي موازاة هذين التطورين، جاءت الأحداث المتسارعة في أفغانستان، لتعطي الجهود المبذولة لتحسين المناخ السياسي الإقليمي، حافز دفع، بسبب ما تلقيه هذه الأحداث من ظلال قاتمة على أزمات المنطقة. فانهيار الأوضاع هناك يعيد إلى الواجهة الكثير من الأسباب التي كانت وراء موجات التطرف التي عانت منها المنطقة، والتي ما زال الكثير منها ينتظر العلاج، تحت رماد من الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية.