ابتكرت واشنطن طريقة لشن الحرب تؤدي حتماً إلى فشلها
بقلم: باتريك كوبيرن
النشرة الدولية –
إن محاولة غير حكيمة لاكتشاف من هو المسؤول عن الفشل في توقع انتصار “طالبان” السريع وتفكك قوى الحكومة الأفغانية، تحجب حالياً أهم الدروس الاستراتيجية للحرب الأفغانية.
تحل عادة نقاط التحول التاريخية بشكل مباغت، لأنه إذا كان بإمكان القوى الحالية رؤية هذه التغيرات المفصلية تلوح في الأفق، لكان بوسع هذه القوى أن تتخذ الخطوات الكفيلة بتفاديها والحؤول دونها [التحولات المعنية]. و يطيب للحكومات والجمهور الاعتقاد بأن هناك حتمية في التاريخ أكبر مما هي عليه الأمور فعلاً. هكذا جرت تحقيقات في أعقاب الأحداث غير المتوقعة ذات الأهمية الكبيرة، مثل سقوط فرنسا في عام 1940، وإطاحة شاه إيران في 1979، وانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، من أجل معرفة أسباب عدم توقع الخبراء ما جرى.
تذهب هذه التحقيقات عميقاً في سياق البحث عن جذور التغير التاريخي وتنجح في العثور عليها دائماً. ولكن، كما قال اللورد نورثكليف، “ينبغي ألا يفقد المرء أبداً القدرة على تمييز ما هو سطحي”. قد تكون المكونات الرئيسة لتطورات تاريخية مهمة هي القرارات والأفعال التي حدثت فعلاً، وكان يمكن بسهولة أن تذهب في الاتجاه الآخر (فتقلب النتيجة رأساً على عقب). على سبيل المثال، امتلك صدام حسين طوال أعوام أسباباً لغزو الكويت في عام 1990، لكن لم يكن أي من هذه الأسباب ليؤثر ويعتد به لو أن الزعيم العراقي قد غير رأيه في اللحظة الأخيرة.
لقد جادلت على امتداد عقد من الزمن أن الحكومة الأفغانية كانت عبارة عن حطام عائم وأن عدم شعبيتها وهشاشتها، وليست قوة “طالبان”، هما المحرك الأساسي للأحداث. ومع ذلك، وعلى الرغم من سوء الوضع، كان من الممكن له أن يستمر لفترة طويلة لو أن دونالد ترمب لم يوقع اتفاقية انسحاب أميركي استثنائية من جانب واحد مع “طالبان” في فبراير ( شباط) 2020. وحتى هذه الاتفاقية كان يمكنها ألا تتمخض عن الهزيمة النهائية التي وقعت ، لو أن جو بايدن لم يقرر، ولدوافع سياسية محلية، أن يثير إعجاب الجمهور في خطابه في 14 أبريل (نيسان) الماضي، ويؤكد فيه أن أميركا سترحل عن أفغانستان قبل ذكرى هجمات 11/ 9، هجمات سبتبمر (أيلول)2001.
وكان مصيباً حين قال إن النظام الأفغاني قد قدم غصناً للولايات المتحدة كان تالفاً إلى درجة لا تستطيع معها أن تركن إليه، ثم قرر بعد ذلك أن يُثقل على الغصن ذاته فيقفز إلى الأعلى والأسفل، ومن دون أن يتوقع أنه سينكسر. تخضع الآن التفاصيل المتعلقة بانهيار كل شيء بين ليلة وضحاها للمناقشة بمرارة وغضب، وكيف كان من الممكن تجنب هذا كله. غير أن الدرس الأهم من هذا بكثير، الذي يمكن استخلاصه مما حصل هو أن الطريقة الأميركية للحرب يشوبها خلل وظيفي يشل عجلتها وتنتج الفشل بشكل أوتوماتيكي.
إن الادعاءات القائلة إن الولايات المتحدة كانت قد تمنع عودة “طالبان”، لو أن حرب العراق لم تشغلها عن أفغانستان، أو لو أنها لم تكرس كثيراً لـ”بناء الدولة” في أفغانستان، يجب رفضها لما هي عليه من مجرد عبثية أنانية. تصرفت الإدارات الأميركية بين عامي 2001 و 2021 بشكل ثابت لم يتغير، وفقاً لمصالحها السياسية الداخلية عندما يتعلق الأمر بأفغانستان، ونادراً ما كانت هذه المصالح متوافقة مع مصالح عامة الأفغان.
إن الحقيقة المثيرة للفضول هي أن الولايات المتحدة فازت بالحرب في الأشهر الأولى من عام 2002، ففي تلك المرحلة كانت القوى المدعومة من قبل أميركا قد أطاحت “طالبان”، كما أن “القاعدة” غادرت البلاد إلى باكستان. بيد أن البيت الأبيض واصل “الحرب على الإرهاب” حتى مع أن الإرهابيين لم يعودوا موجودين، وذلك لأن لهذه “الحرب” كشعار وسياسة أثرها وجاذبيتها بالنسبة إلى الجمهور الأميركي الذي روعته صدمة 9/ 11. بالتالي أعادت القوات الأميركية أمراء الحرب القدامى، ودعمتهم، مع أن أعمال اللصوصية الملطخة بالدماء التي قاموا بها بين عامي 1992 و 1996 كانت قد أدت إلى ولادة “طالبان” على سبيل رد الفعل على تلك الممارسات. واستغل رجال عصابات إجرامية أفغانية كبيرة وصغيرة، الدعم الأميركي من أجل كسب مزيد من المال والسلطة. وغالباً ما وشوا بالخصوم واتهموهم بأنهم من المؤيدين سراً لـ”طالبان” و”القاعدة”.
أما كيف أدت هذه العملية إلى تجريد القوى المناهضة لـ”طالبان” من مصداقيتها وأفضت إلى عودة “طالبان”، فهو ما يشرحه أناند غوبال في كتابه الرائع والمفصل المعنون “لا رجال صالحون بين الأحياء: أميركا وطالبان والحرب بعيون أفغانية”. يتخذ الكتاب من مقابلات عديدة أساساً ينطلق منه ليقدم وصفاً مقنعاً لكيفية مساعدة أميركا بتدخلها العسكري في البداية على التخلص من “طالبان”، ثم لم تلبث أن استبدلت بالحركة زعماء محليين جشعين دأبوا على التنديد بكل من وقف في طريقهم واتهامه بأنه “إرهابي”.
وكان كثيرون في جنوب أفغانستان الفقير الذي يشكل أبناء إثنية البشتون معظم سكانه، الذي كان المعقل الرئيس لحركة “طالبان”، سعداء برؤية الحركة تخرج منكسرة، آملين أن يؤدي التدخل الأميركي إلى إجراء انتخابات ديمقراطية وتوفير مساعدات اقتصادية. لكن بدأت خيبة الأمل تفرض نفسها في وقت مبكر، حين صار المزارعون المحايدون أو المعادون لـ”طالبان” يُنقلون بشكل مفاجئ وعاجل إلى مطار باغرام وغوانتانامو، حيث كانوا يُعاملون معاملة سيئة ثم يجري اعتقالهم. ويسرد غوبال في أحد الأمثلة العديدة التي يوردها في الكتاب، كيف أن “قوات الولايات المتحدة شنت هجوماً على مدرسة وعلى بيت الحاكم في يناير (كانون الثاني) 2002، ما ادى إلى القضاء على القيادة الموالية للولايات المتحدة برمتها في المقاطعة في ليلة واحدة”.
وكانت “أخطاء” كهذه جزءاً لا يتجزأ من الطريقة التي ساعدت فيها الولايات المتحدة على تجديد شباب “طالبان” على امتداد عقدين من الزمن من خلال استخدام فرق الهجوم لشن مداهمات ليلية فيما استعملوا القوى الجوية في كل الأوقات، علماً أن أهداف هذه العمليات كلها كانت غالباً ما يجري انتقاؤها على أساس معلومات استخباراتية خاطئة وغير محايدة.
كنت في هيرات في شرق أفغانستان عام 2014 أكتب عن ثلاث قرى في إقليم فارار قصفتها طائرات سلاح الجو الأميركي، ما أسفر عن سقوط 117 قروياً، بينهم 61 طفلاً، وذلك في أعقاب طلب الشرطة المحلية تنفيذ غارة جوية ضد المنطقة. وعلى الرغم من وجود حفرة ضخمة بعمق 15 قدماً، فقد ادعى متحدث باسم الولايات المتحدة بادئ الأمر أن المذبحة حصلت بسبب إقدام “طالبان” على إلقاء قنابل يدوية على المنازل.
ازدادت هذه الفظائع سوءاً في السنوات الأخيرة، فيما سحبت الولايات المتحدة قواتها البرية وباتت أكثر اعتماداً على “المداهمات الليلية”، التي غالباً ما نفذتها وحدات هجومية أفغانية أشرفت الولايات المتحدة على تنظيمها، وكانت في الواقع أشبه بفرق الموت. صحيح أن عدد القوات الأميركية قد هبط، غير أن عدد القنابل والصواريخ التي ظلت تطلقها لم يتبدل.
وكما هو متوقع، كانت الدوافع التي حملت الشباب في السنوات الأخيرة على الالتحاق بـ”طالبان” ذات شقين حسبما ذكرت تقارير محلية، ولا علاقة لها أبداً بالإسلام الأصولي. فقد قال مقاتلون، إنهم انضموا إلى صفوف الحركة بسبب المداهمات الليلية التي توقع قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وأيضاً لأن الولايات المتحدة كانت تدعم مجموعات إثنية وقبائل معادية لهم.
خلاصة القول هي أن واشنطن ابتكرت طريقة لخوض الحروب تضمن أنها لن تنتهي أبداً. وكلفة هذه الحروب هائلة، تترواح بين 1 و 2.3 تريليون دولار، على امتداد 20 سنة، استناداً إلى طريقة احتساب قيمة هذه التكلفة. ربما تكون القوى الجوية الأميركية قد قتلت عديداً من عناصر “طالبان”، بيد أنها ضمنت التحاق عدد أكبر منهم بالحركة.
استطاعت الولايات المتحدة أن تتجنب وقوع خسائر بشرية كبيرة بين قواتها نظراً لاستعمالها الطائرات المسيرة والغارات الجوية التي اعتمدت في ضرب الأهداف المعادية استندت إلى صور بالأقمار الصناعية صعبة التفسير ومخبرين محليين مريبين. وعلى هذا المنوال، كانت إحدى العمليات العسكرية الأخيرة في مطار كابول غارة بطائرة مسيرة استهدفت انتحاريين، ما أسفر عن مقتل 10 مدنين بينهم سبعة أطفال.