سجن جلبوع ودروس في مقارعة الاحتلال
بقلم: تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية
بمعيار المهارة، تكاد تكون عملية فرار الأسرى الفلسطينيين الستة من السجن الإسرائيلي الحصين عملية نوعية غير مسبوقة، وبمعيار التوصيف هي درس من الدروس العابرة للأجيال، وهي بالمعيار السياسي الدارج، تعبير من التعبيرات المتواصلة عن الإصرار على التمسك بالحق، وعدم التهاون في استعادته، مهما كانت التضحيات، وتراكمت التحديات، ومهما شحت الفرص، وتضاءلت الإمكانيات.
الشعر وحده كان التعبير الممكن والأسهل في التعليق على عملية هروب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع الإسرائيلي الحصين، إذ لم تترك الدقة والإحكام في تنفيذ العملية الجريئة أي فرصة للبحث في الإخفاق الاستخباراتي، ولا أي إمكانية للتعليق حول التداعيات السياسية.
للوهلة الأولى بدت العملية كما لو أنها صناعة هوليوودية محمّلة بفائض من الخيال العصي على التصديق، وقفز على حقائق وممارسات تسلب العملية أي مظهر من مظاهر الواقعية، التي أصبحت شعارا لمرحلة كاملة، وطريقا سهلا للوصول لما يتراءى للظمآنين أنه ماء يطفئ عطشهم للحرية، حتى إذا جاؤوه وجدوه قيدا جديدا يزيد من معاناتهم، ويطيح بالبقية الباقية من صبرهم وقدرتهم على الاحتمال.
قد لا تكون عملية فرار الأسرى عنوانا لمشروع سياسي، وقد لا تجد من يكررها ويمشي على منوالها، وقد تصبح درسا يتعلم منه المحتل كيف يزيد قسوة الاحتلال، وكيف يُمعن في القهر والإذلال، لكن من المؤكد أن العملية ستُسجل في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنها واحدة من العلامات المضيئة والملهمة التي تعطي قوة دفع وجرعة عزيمة لكل المناضلين من أجل الحرية، لا في فلسطين فحسب، بل على امتداد ميادين المواجهة والصراع، بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل.
العملية النوعية التي قام بها الفلسطينيون الستة هي واحدة من إبداعات الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، وهي في بعدها الإنساني من جنس انتفاضة أطفال الحجارة التي غيّرت الكثير من المفاهيم، وأضافت بعدا شعبيا لنضال الفلسطينيين لاستعادة أرضهم وحقوقهم، وجعلت من الحجر ندا للدبابة، ومن العين ندا للمخرز.
هي أيضا من جنس حرب الأمعاء الخاوية التي سطر فيها الفلسطينيون صفحات مضيئة من النضال في مقارعة الاحتلال ورفض كل محاولاته لترويضهم، وقبول الاحتلال كقدر يستسلمون له، ويرضخون لكل ما يصدر عنه من إجراءات القهر والإذلال.
الفلسطينيون الستة المحكوم عليهم بفترات سجن من المؤبد المتكرر، الذي تشيع مدته الطويلة الإحباط واليأس، وتأتي مدته الممتدة إلى ما لا نهاية على البقية الباقية من أي أمل بالحرية، وتعصف طبيعته القاسية بكل إمكانية أي فرصة لاستعادة الحياة الحرة الكريمة، أكدوا بفرارهم أنهم أقوى من سجانيهم، وأنهم بإصرارهم على الحرية ينتصرون، وأنهم يعيدون أملا في أوصال حالة من الشك والضعف وقلة الحيلة.
ومهما كانت نتائج الحملة التي بدأتها قوات الاحتلال لملاحقة الأسرى لقتلهم، أو استعادتهم، فإنها لا تستطيع من الآن احتواء الأثر الذي تركه الأسرى الباحثون عن الحرية، الفارون من القهر والظلم، لا في نفوس أبناء شعبهم الفلسطيني فحسب، بل في نفوس كل من يحمل القيم الإنسانية النبيلة التي ترفض الاعتداء على كرامة الإنسان، وسلب حقوقه الأساسية.
والمخاوف التي يشيعها البعض من أن يكون مصير عملية الفرار من السجن الإسرائيلي هو الوقوع في فخ وشاية من عميل أو تواطؤ نفس مريضة، هي _ حتى لو كانت واردة في تاريخ مقارعة المحتل _ محاولة مبكرة من الاحتلال لتشويه الإبداع الذي أظهره الأسرى الفارون من سجنهم، كما أنها محاولة لاستباق أي استثمار للعملية لتسليط الضوء، لا على مصير الأسرى الستة فحسب، بل على قضية المعاناة التي يعيشها الآلاف من الأسرى الذين يقضون سنوات طويلة في سجون الاحتلال.