شويكه سيدة الحكايات – الجزء الرابع… المشهد الزراعي – ذاكرة الزيت والزيتون والزعتر
بقلم: الدكتور سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
المشهد الزراعي في شويكه كان بارزاً ، إذ كان ناسها آنذاك يعتمد ون على زراعة الزيتون والتين وغيرها من الفواكه، بالاضافة لزراعة الحبوب والخضار. كانت برارينا وحواكيرنا وكرومنا وبساتيننا، كثيرة الخير. فقد كان في الغيم العابر لأجوائنا والمقيم، مطر غزيز يرويها ويغذي ابارها حتى تفيض، وتسيل بفضله وديانها.
شجرة الزيتون ثروة مباركة، معمرة دائمة الخضرة. لها أهمية ومكانة رفيعة في الزراعة الفلسطينية، فهي ما تزال علامة مميزة لشويكه، والكثير من قرى فلسطين ومدنها، وكل بلاد الشام. ولا تزال أسماء بعض القرى والمدن، تدل على ما كانت قديما تتمتع به هذه الشجرة وزيتها من شهرة، منها: حي الزيتون، وقرية “زيتا”، ومدينة بيرزيت.
مع عمق وشمولية الحرب الصهيونية المفتوحة ضد الفلسطينين، فهم يُصَعِّدون حربهم ومجازرهم ، بنفس القسوة والبشاعة ضد شجرة الزيتون أيضا. لأنها رمز الصمود والثبات والتجذر، وتعميق الارتباط بتراب الوطن، وجزءا من هوية عروبة فلسطين. يقول الدرويش عنها، أنها شجرة لا تبكي ولا تضحك، سيدة السفوح المحتشمة، بظلها تغطي ساقيها، ولا تخلع اوراقها أمام العاصفة.
يقولون زيت الزيتون عمود البيت وطَيِّب، بس إلْقاطُه بيشيِّبْ. موسم قطاف الزيتون، مُمتد ما بين تشرين اول والثاني. التبكيرُ والتأخير في الموعد نابع من الفروق في أحوال الطقس ودرجات الحرارة، ناهيك عن الفرق في أنواع الشجرنفسه، فمنه ما ينضج قبل غيره.
وسط أجواء وطقوس احتفالية تراثية، تتفاوت من بلد لآخ، ينطلق موسم القطاف ، ينتظره الناس رجالا ونساء كبارا وصغارا، بفرح وبـشغف كل عام. يستعدون له بالاعتناء بنظافة الارض، حتى لا تحول الأعشاب والأشواك دون التقاط الثم. ومع اقتراب نضج الثمر، يسارعون بتحضير السلالم والعصي والاقمشة، لتكون فرشا تحت شجر الزيتون، لمنع تساقط حباته على الارض، وتسهيلا لجمعها بعد القطاف.
يحرص في العادة، فريق القطاف على الوصول مبكرا الى الشج، ومعه زوادته وعدة الشاي. يبادرون الى إلتقاط الحبات الساقطة على الارض بفعل الرياح والامطار، وتسمى قرقيع وجرجير، تستخدم لاستخراج زيت الطفاح منها. ومن ثم يتم فرش الأقمشه ووضع السلالم وتوزيع المهام على الاشخاص. يستلم الشباب الأغصان العالية، وتترك القريبة لكبار السن.
ومع أذان الظهر، تبدء استراحة الغداء وشرب الشاي. وقبل الغروب تبدأ عملية تحضير المحصول لتعبئته في الأكياس، تمهيدا لإرساله إلى المعصرة، بتنظيف الثمار من الأوراق والعيدان المتساقطة اثناء القطاف، التي تؤثر على نكهة وطعم الزيت. وتقوم النساء بفرز الزيتون الاخضر والأسود اللازم للتخليل والمكمور، والذي يعتبر رفيق كل مائدة وأفضل أطعمتها. من المعروف أن هناك بعض اصناف الزيتون تستخدم لاستخلاص الزيت، وبعضها الاخر للتخليل وتحضير زيتون المائدة، وهناك اصناف ثنائية الغرض، لاستخلاص الزيت والتخليل.
ترسل أكياس الزيتون محمّلة على الجمال والحمير الى واحدة من معصرتين في شويكه، معصرة ابو خويلد او معصرة البيادر المقابلة لمقهى ابو خولة، لتترجم بالدرس على البارد، الى زيت ذهبي لاذع يميل الى الخضرة، يعبئ في تنك من القصدير. وقبل ان يودع في خوابي فخارية معتمة منعا لتأكسده، كان يهدى منه للأرحام والجيران والأهل والأصحاب، في العادة، كان صاحب المعصرة، يأخذ كمية متفق عليها، من الزيت مقابل عمله ( الرَّدْ ). وبعد انتهاء الموسم، يقوم صاحب المعصرة بتجفيف الجفت الناتج عن العصر، وبيعه لأصحاب الأفران وقودا. وبعد الحرق داخل الفرن، يتحول الجفت الى ما يسمى بالدُّق، يبيعه أصحاب الأفران للناس، بديلا عن الفحم للتدفئة.
ما تزال ذاكرتي، تعج بمشاهد عشرات الأولاد من جيلي، في ساحات المعصرة، نركض بين أكوام الزيتون وأكياسه، وبمشاهد الحاملين لأرغف الخبز الساخن، وهم يستأذنون صاحب الزيت الواقف امام الفرازة بغمر خبزهم في برميل الزيت الجديد، والذي كان يبتسم وهو يقول: صحتين وعافية. وما تزال ذاكرتي موشحة بمرتبانات الزيتون المكمور والمرصوع والمشطب الموشى بشرحات الليمون والفلفل الاخضر.
لموسم الزيتون، معانيه وحكاويه الكثيرة، التي لا يفهمها الا كل من التصق بالارض، وعاش همومها وأحلامها. تحفظ ذاكرة فلسطين قصص كثير. فلو يذكر الزيتون غارسه، لصارالزيت دمعا. فهو الوطن الذي لا يفر امام عدو ولا يغدر بأبنائه او يجوعهم. كُلْ زيت بِتناطح الحيط. ناهيك عن موسم المسخن بخبز الطابون المُنَغْنَغ بالزيت الطازه، والجاج البلدي وسماق عجلون. الزيت والزيتون والزعتر، ثقافة حياة وأسلوب.