قراءة في نص قيود للقاص العراقي حيدر الكعبي
النشرة الدولية –
برس بارتو – بقلم رولا العمري –
(قيود)
بِشغفٍ سِرنا نَحوَ الغَد، هو بِعصَاه يُغازلُ الدّربَ، وأنا بِحدّةِ بَصرِي أُعانقُ المَدى…
حينَ تَعثّرتُ بالظّلام، مَنحَني مِن قَلبهِ قَبسًا وَقَال: العَمَى -يا بُنيّ- أنْ تَثِقَ بِعينَيك.. وَيخذُلكَ الأُفق!.
بدأ الكاتب نصه بكلمة بشغف كناية عن ذلك الطموح و السعي نحو غد مشرق، وعن تسخير كل منهما لطاعته للسير نحو المستقبل.
نحو الحياة، سارا معا كلٌ يبصر الطريق بطريقته، أحدهم يغازل الدرب، وجاءت كلمة يغازل هنا كناية عن المسايرة والمواكبة والتأقلم فالطريق ليس على صعيد واحد تتعرج تارة و تستقيم تارة أخرى، لذلك يجب أن نكون حريصين حين نجتازها والمغازلة هنا جاءت صورة شعرية بليغة وإسقاط جميل على اجتياز التحديات التي تواجه المرء وكيف يجب أن نكون إزاءها. فالمغازلة تعني الحديث بمعسول الكلام و اللين والهدوء.. وكذلك طريق الحياة تحتاج إلى أسلوب ملائم لما يجابهنا من عقبات فلا نشتد ولا نرخي ولا نتوقف، بل نبطئ حين تتعرج ونسرع حين تستقيم.
والإشارة للعصا التي يحملها فإن الشخص لا يملك سواها فهو ضرير لا يستطيع الاستدلال على الطريق بدونها فهي بوصلته و هي طريق النجاة بالنسبة له يهتدي بعصاه التي لا تخطئ الدرب ولكن هناك شيء أقوى يبصر به ألا وهو القلب والإحساس كعادة الضرير الذي حرمه الله نعمة البصر و وهبه نعمة البصيرة .
“وأنا بحدة بصري أعانق المدى” هنا إشارة إلى الشيء الوحيد الذي نحتاجه لاختيار الطريق ألا وهو البصر ولكن هل هذا كافيا لكي نبصر الطريق جيدا؟؟
طالما هناك أشخاص امتازوا بحدة البصر ولكنهم فقدوا البصيرة و الإحساس بالخطر والمجهول، وربما نحتاج لأكثر من البصر لنرى ما حولنا على حقيقته،
فيكمل ويقول : “حين تعثرت بالظلام” وهل الظلام يأتي على غفلة؟ المعروف هنا أن الظلام يحل بالتدريج ولا يأتي دفعة واحدة ولكن شبه الكاتب الظلام بالحجر أو الحاجز وهذا ما قصده الكاتب .. فقد كان ببصره ينظر للمدى البعيد ونسي موقع قدمه، فلم يلحظ ذلك الحاجز الذي شبهه بالظلام وهنا يبدو أن الحاجز هذا شيء أعاق حركته وقيد مسيرته و أوقفه فليس كل ما يُرى نستطيع اجتيازه هناك قيود أخرى ربما قيود وحواجز وظروف منعتنا من المواصلة، فرضناها على أنفسنا، وقيود فرضتها الطبيعة أو المجتمع وعرقلت مسيرته، لذا شبهها بالظلام الذي لا نستطيع أن نرى شيئا من خلاله.
ومن هنا جاء سبب العنونة التي جاءت ملائمة تماما للنص ، فهي غير فاضحة و بعيدة عن كشف المحتوى وقريبة جدا من فكرته. قد يكون القيد شيء ملموس وقد يكون القيد شيء محسوس، وهنا كما لمست في النص، فإن القيد كان شيئا محسوسا، حيث أن الضرير لم يعاني قط من القيد رغم ما يعانيه من فقد البصر، إلا أنه يملك شيئا أكثر قوة وأكثر مرونة للتعرف على طريقه بشكل صحيح.
“منحني من قلبه قبس”
صورة بليغة وعميقة للإيجابية و الكلمة الطيبة ربما بل ربما تكون دفعة للأمام وتشجيع للاستمرار وهنا استطاع الكاتب اختصار الكثير من المسميات في هذه الجملة ، كلمة قبس تعني: صفة من صفات النار ، ثمّ يستعار ، من ذلك القبس : شعلة النار ، يقال” أقبست الرجل علما وقبسته نارا” ابن دريد : قبست من فلان نارا، واقتبست منه علما ، وأقبسني قبسا ، ومن هنا نستدل على كلمة قبس في النص على أنها ضوء أو نور أو دفء أهداه ليستبين الطريق، وهنا لا بد أن نذكر المقولة التي قالها الغزالي (ٱمنت بنور قذفه الله في صدري) وأتى هذا التناص ملائما جدا لهذا المشهد، هذه المقولة المشهورة أوضحت لنا أن النور والهداية ينبع من القلب، وأن القلب منشأ الطمأنينة و التبصر.
وكانت المفارقة الصارخة، حيث أن الضرير أهدى المبصر الضوء! ياللعجب ، نعم نحتاج للضوء لينير لنا البصيرة التي اغفلناهاونحن نعتمد فقط على البصر.. نحتاج البصيرة أكثر مما نحتاج للبصر بل إنه السبيل الوحيد كي ندرك عقبات الطريق و ما تخبئه لنا.
واختتم النص بحكمة قالها ذلك الذي يغازل الدرب .. أن العمى الحقيقي هو أن تثق بما تراه أمام عينيك فقط ويخذلك ما تخفيه الطريق بعد ذلك فالافق جاء هنا كناية عن بعد النظر .. لكي نستطيع أن نسير على الطريق القويم هو أن نوازن بين ما نراه أمامنا وبين البعيد الذي لا نراه بل نبصره بقلوبنا.