“أمّ الكلّ”
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
في السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر) الجاري، تغادر أنجيلا ميركل العمل السياسي، بعد 16 سنة ترأست خلالها، ومن دون انقطاع، بفضل عملية ديموقراطية حقيقية، السلطة التنفيذية في ألمانيا.
يوم قرّرت المستشارة الألمانية عدم الترشح لدورة خامسة، لم تكن قد خسرت شعبيتها، ولم تكن صورتها قد تلطّخت، ولم تكن بلادها قد انهارت.
لقد قرّرت ذلك، عندما أدركت أنّ قدرتها الأكيدة على الإمساك بموقعها، يمكن أن تتسبّب بمشكلات سياسية لوطنها، بسبب تنامي الطموحات في بلاد “تداول السلطة”، ما ينعكس، لاحقاً، بطريقة سلبية على العافية الاقتصادية الوطنية، وعلى رفاهية الشعب الذي لم يتردّد في منحها ثقته، لأنّها، في الواقع، تعاطت معه بعاطفة جيّاشة، دفعته الى وصفها بـ”والدة الأمّة”، وهي التي لم يعطها رحمها أولاداً.
“أمّ الكل” لم تستثمر أزمات، ولم تلقِ تبعة الصعوبات التي واجهتها على الآخرين، ولم تُغيّرها السلطة: بقيت في منزلها المتواضع، ثابرت على شراء حاجياتها بنفسها، واظبت على تقاسم الأعباء المنزلية مع زوجها، لم تصبح “عارضة أزياء”، ولم تحوّل إطلالاتها الى تمثيل.
إنّ “أقوى امرأة في العالم” لم تكن تعمل إلّا من أجل قوّة بلادها ومصالح شعبها.
لم تقرر الخروج من السلطة تفادياً لفضيحة، فهي أتت إليها “مُصلِحة”. وقفت ضد “عرّابها” هيلموت كول، بعدما ثبت لها تورط “بطل توحيد ألمانيا” في فضيحة فساد سُميت بـ”الصناديق السوداء”. وها هي تغادر “صالِحة”.
عزّزت موقع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي وفي العالم، على مختلف المستويات السياسية والدفاعية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، حتى بدا أنّ كثيراً من الشعوب تلتقي مع الشعب الألماني، في التحسّر على مغادرتها الحياة السياسية، من جهة، وفي تبجيل نموذجها ليكون مثالاً يُحتذى، كلّما توجّه الناخبون الى صناديق الاقتراع، من جهة أخرى.
لم يُعرَف عنها أنّها أطلقت شعارات لا تملك وسائل تطبيقها. سهرت على أن يُنتِج لها جهدها شعبية، من دون أن تنحرف يوماً الى الشعبوية القائمة على سحر الرأي العام باللعب على غرائزه القومية أو العرقية أو الدينية، ممّا يعود، يوماً، ويلقيه في التهلكة.
لم تكن “أخت الرجال”، ولا “دلوعتهم”، بل امرأة فتح لها احترامها لذاتها وللآخرين، طريقاً واسعة في عالم ذكوري بامتياز.
لم تكن “ابنة الوالد”، ولا “زوجة الثري” ولا “صديقة النافذ”، بل كانت صنيعة خيارات علمية ومبدئية وأخلاقية وسياسية.
وهي فيما تودّع بلادها والعالم، تترك، خلفها، نموذجاً وسطياً، ينظّف “الأنثوية” من “تعصّب”، و”الذكورية” من “فوقية”.
إنّ مقارنة أنجيلا ميركل بسياسيي دول كثيرة، بينها لبنان، مستحيلة لأسباب كثيرة ومتنوّعة، ولكن من حق شعوب هذه الدول أن تنظر إلى المستشارة الألمانية و”تندب” واقعها السيّئ، حيث أدعياء القوة ينمون على حساب قوة أوطانهم، وحيث “صانعو” الانتصارات مجرد تابعين، وحيث طلّاب الشعبية يجهدون في صناعة الشعارات المميتة، وحيث السياسة “باب رزق”، وحيث السلطة منصّة للجاه، وحيث التعاطي مع المواطن أداء مسرحيّ، وحيث رعاية الاقتصاد خدمة للمافيات، وحيث الحرّيات مودعة في عهدة لاعقي أحذية الطغاة والمجرمين، وحيث المناصب تُهدى لـ”المخصيين”، وحيث “الأنثوية” و”الذكورية” محطّمتان، في آن، تحت أقدام محتقري حقوق الإنسان.
تغادر أنجيلا ميركل منصبها، ولكنّ مثالها لن يغادر مطلقاً كل من يتطلّع الى سياسي متّزن، كفء، متفان، متواضع، وصالح.
لم تحتج ميركل الى أن تربح الحرب العالمية الثانية لتصطف الى جانب عظماء هذا العالم، من أمثال شارل ديغول وونستون تشرشل. كفاها أن تنتصر في معركة مع الذات على الشهوات السلطوية، حتى تفعل.