اليمن.. الحياة والموت مسألة حظ لمرضى الكورونا في تعز.. ونقص الأوكسجين يفاقم الأزمة
تقرير| محمد المياس/ مراسل النشرة الدولية من اليمن –
في ظل تفشي الموجة الثانية لفيروس كورونا في اليمن بين فبراير/شباط ويوليو/تموز من العام الحالي2021 ، عانت مدينة تعز من نقص حاد في مادة الأكسجين، نتيجة ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس، إذ سُجّلت فيها نحو “4000” حالة إصابة، منها “580” حالة وفاة، بحسب إحصائيات مكتب وزارة الصحة بالمحافظة.
تُعد مدينة تعز، من أكبر المدن اليمنية من حيث الكثافة السكانية، إذ يسكنها قرابة المليون نسمة، رغم الكثافة السكانية أُقيم في المدينة مركز عزل وحيد لمرضى فيروس كورونا بسعة “35” سريراً، وفيه “16” جهاز تنفس اصطناعي فقط، إضافة إلى وجود محطتين لتعبئة الأكسجين الطبي في المدينة؛ إحداهما حكومية، وأخرى خاصة، وكلاهما لا تغطيان احتياجات مستشفيات المدينة من الأكسجين.
فوجئ رشاد السامعي بعد إسعاف خالته إلى مركز العزل الوحيد في تعز بأن المركز يمتلك فقط ثلاث أسطوانات من الأكسجين، فيما عدد المصابين بالكورونا فيه هو ستة مرضى.
رشاد رسام كاريكاتير يمني، يحكي معاناة خالته المصابة بفيروس الكورونا: “في الساعة الثانية بعد منتصف الليل بدأت الأسطوانة الخاصة بخالتي بالنفاذ من الأوكسجين، بينما مركز العزل يعاني من نقص في الأكسجين، والطبيب المناوب يشكو بأن ما بيده حيلة”. كان على رشاد أن يبحث بنفسه عن حل ينقذ حياة خالته، اتصل بصديقه “سمير إسماعيل” الذي نقله بسيارته إلى محطة الأكسجين في مستشفى التعاون وسط المدينة، و”منها استطعنا إخراج خمس اسطوانات بصعوبة بالغة، فقد تولى سمير الاتصالات مع إدارة المستشفى والمحطة، شرح للمعنيين الحاجة الملحة لهذه الأسطوانات الضرورية لإنقاذ حالات طارئة ومعرضة للموت”.
عاد رشاد الى مركز العزل حاملاً أسطوانات الأوكسيجين التي أنقذت حياة خالته، في تلك الليلة كانت مريضة أخرى تودع الحياة، فقد ماتت اختناقًا بسبب نقص الأكسجين وضعف الإمكانيات داخل المركز. يروي رشاد أن تلك المريضة كانت تنام في السرير المجاور لسرير خالته، ولما اشتدت حاجتها للأوكسجين، استطاع مرافقوها توفير أسطوانة ممتلئة، لكنهم عجزوا مع الطبيب المناوب عن فتح صمامها لأنها كانت تحتاج إلى “مفتاح” خاص بالأسطوانات” غير متوفر في المركز. في الوقت الذي كانت حياة المريضة تحسب بالدقيقة والثانية، فشلت كافة الوسائل لـفتح الاسطوانة.
“الحياة والموت في مركز العزل مسألة حظ” هكذا وصف “رشاد” حال مرضى كورونا داخل مركز العزل في تعز، أثناء مرافقته لـ خالته المصابة بالفيروس إلى مركز العزل في آذار/مارس، بعد أن شاهد الموت وهو يختطف أرواح المرضى نتيجة نقص الأكسجين.
حالات خطيرة وأزمة ثالثة
كانت أزمة الأكسجين سببًا في ارتفاع نسبة الوفيات ودخول الكثير من الحالات المصابة بفيروس الكورونا في موجته الثانية بـمضاعفات كبيرة. في ظل ارتفاع أعداد الحالات الخطيرة وتزايد أعداد المصابين كان مخزون المدينة من الأوكسجين ينفذ، وتنفذ معه أبسط الحلول لمواجهة الجائحة، الأمر الذي يخشى أطباء ومواطنون أن يتكرر في الموجة الثالثة للفيروس، التي بدأت بالتفشي في المدينة منذ منتصف اغسطس/آب الحالي .
للكشف عن حجم الكارثة قمنا بالتواصل مع أطباء داخل مركز العزل، الدكتور هشام فاروق أكد لنا أن عدد كبير من المصابين بالفيروس عانوا من مضاعفات شديدة جداً، وروى أن المرضى حين يعلمون بوجود نقص بالأكسجين او بالأسطوانات تنتابهم نوبات من الهلع، فتنخفض نسبة الأكسجين لديهم إلى أقل من 85 إلى 50 أحيانًا أدت إلى الوفاة.
بألم تحدث الدكتور فاروق عن نفاذ أسطوانة الأكسجين التي يتنفس منها أحد المرضى وكان المريض ينادي بتغيير الأسطوانة، بينما الكادر الطبي لا يستطيع فعل شيء.
الدكتور آدم الجعيدي (أحد كوادر الطبي في المركز) كرّر ما قاله الدكتور هشام، ولفت إلى أن المريض الذي يعاني من حالة حرجة قد يحتاج الى 20 أسطوانة في اليوم، فيما أكد من جهة أخرى غياب الإحصاءات حول أعداد الوفيات بمرض الكورونا، لكنه شهد بنفسه وفاة خمسة مرضى بسبب نقص الأكسيجين، أما نائب مدير مدير مكتب الإعلام والتثقيف الصحي في مكتب وزارة الصحة بـ محافظة تعز “تيسير السامعي” فتحدث عن معرفته بوجود حالة وفاة واحدة فقط بسبب نقص الأكسجين داخل مركز العزل الوحيد في المدينة.
قلق الأطباء وحزنهم
أزمة الأكسجين في مركز العزل تسببت أيضًا بتدهور الحالة النفسية والصحية لدى الكادر الطبي عوضًا عن المرضى الذين يسمعون النداءات بعدم وجود الأكسجين، وهم بأمس الحاجة إلى أخبار إيجابية تحفزهم على المقاومة، وفقاً للدكتور هشام الذي لخص الوضع بوصفه بالمأسوي، مؤكدًا أن الخوف يسيطر على جميع المرضى، وقد أدى هذا الشعور المتحكم بالمرضى إلى انتكاسة بعضهم، ووفاة عدد منهم.
يحاول الدكتور هشام وزملائه طمأنة المرضى، لكن جميع الطرق المستخدمة من قبلهم تفشل مع أول نداء لمريض يستنجد وينادي بأن أسطوانته قد نفذت ويطالب بتغييرها، يقول: ” للأسف ليس بيدنا شيء نستطيع فعله”. مع صرخة أي مريض يقلق المرضى الآخرون من نقص بالأكسجين، فيطالب كل واحدٍ منهم بأسطوانة إلى جانبه.
في مواقع التواصل.. البحث عن الحياة
غالبية المصابين بالكورونا في مدينة تعز يخضعون للعزل المنزلي، وحدهم المرضى الذين يعانون من انتكاسات خطيرة يتم إسعافهم إلى مركز العزل في المدينة، لذلك فإن 70% من الحالات تصل إلى مركز العزل الوحيد في المدينة تكون فاقدة للحياة، بحسب مدير المركز الدكتورنشوان الحسامي.
عدد من المرضى المعزولين في بيوتهم يحتاجون أيضاً لأسطوانات الأكسجين، وبسبب ندرتها يلجأ ذووهم إلى منصات التواصل الاجتماعي للبحث عمّن يوفر لهم أسطوانات الأكسجين، في محاولة منهم لإنقاذ حياة مرضاهم. عمر الأغبري ممن أطلقوا نداءً عبر فايسبوك، كتب منشوراً جاء فيه : “محتاج دبه أكسجين لوالدتي في البيت، لفترة بسيطة وبرجعها” موجهًا سؤالًا في نهاية المنشور لأصدقائه:
“من ممكن يخدمنا بهذا الشيء أو يدلنا على مكان ممكن استأجر منه اسطوانة أكسجين؟”
الناشط المجتمعي “محمد الحداد” هو الآخر كتب في صفحته على “فيسبوك” عن حاجته لأسطوانة أكسجين ضرورية لإنقاذ حياة امرأة من الموت. لم تمضِ ساعة واحدة حتى كتب الحداد منشور آخر قال فيه: أسعفنا الحالة المريضة بالفيروس إلى مركز العزل في مستشفى الجمهوري إلا أننا لم نجد اسطوانة أكسجين في قسم الإسعاف ففارقت المريضة الحياة، واختتم الحداد منشوره بالتذمر من تقاعس السلطات المحلية والصحية في المدينة عن القيام بواجباتها.
الحالتان السابقتان نموذجان عن مئات الحالات التي يمكن رصدها في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يبحث مواطنون وناشطون من مدينة تعز عمّن يوفر لهم أسطوانات الأكسجين لإنقاذ حياة مرضاهم. في المقابل، وبعد أن بدت سلطات المدينة عاجزة أحياناً عن التعامل مع الانتشار الكبير للفايروس في موجته الثانية، وفي حين آخر متوارية عن القيام بمسؤوليتها، ظلت تراقب من بعيد خطوات مواطنين أخذوا زمام المبادرة في توفير اسطوانات مملؤة بالأكسجين للمرضى في المنازل وفي مركز العزل الحكومي الوحيد في المدينة، انطلاقًا من مسؤوليتهم الاجتماعية. بدعم من فاعلي خير (تجار ومغتربين) وجهود ذاتية من ناشطين، تمكنوا من تأمين أسطوانات أكسجين وقاموا بتوزيعها في الأحياء السكنية.
الناشط المجتمعي “سمير إسماعيل” واحد من عشرات المبادرين الذين عملوا كثيرًا في عملية توفير الأكسجين لمرضى كورونا في مدينة تعز، كانت الاتصالات من ذوي المرضى إليه لا تتوقف على مدار الساعة طلبًا للأكسجين، ينادي المتصل الأول “يا عم سمير الحقنا أختي بتموت” ومتصل آخر ينادي “يا عم سمير أبي بالموت”، وأب ينادي “يا عم سمير ابني بتخلص عليه اسطوانة الأكسجين، والثانية لم يتم تعبئتها بعد، كل الاتصالات على هذا النحو”، ما جعله يصف الوضع في منشور له على “فيسبوك” بالكارثي للغاية.
يقول إسماعيل: “المرضى وذووهم يعيشون حالة من الهلع، الأهل يبدون مفجوعين لا حول لهم ولا قوة”، ويضيف “في الأمس أسطوانة أكسجين تنقذ مصاب في منطقة “عقاقة”، واليوم أسطوانة اكسجين تنقذ مصاب في “صبر”، إن من يعثر على اسطوانة اكسجين فكأنما كُتب له عمر جديد”.
خلال عشرة أيام بين 25 مارس/آيار – 5 أبريل/نيسان 2021، ساهم فاعلو الخير في مدينة تعز عبر مبادرة سمير الشخصية وحدها، بتوفير مبلغ يقدر بـأكثر من 4 مليون وخمسمئة الف ريال يمني ما يوازي ٥ آلاف دولار- وذلك لدعم مشروع توفير الأكسجين لمرضى كورونا كما جاء بمنشور مفصل لسمير اسماعيل.
اعتراف بالنقص
ثمة فجوة كبيرة بين ما يحصل عليه مركز العزل من الأكسجين وبين الاحتياجات الفعلية، حيث يحصل المركز على 40 أسطوانة يوميًا من محطة التعاون و 20 أسطوانة من محطة الثورة فيما المركز يحتاج إلى نحو 300 أسطوانة يوميًا، وما تبقى من الاحتياجا يتم توفيره من محطة الصالحي في العاصمة المؤقتة عدن التي تبعد عن مدينة تعز نحو 190 كم، مرورًا بطرق جبلية وعرة، ومن محافظة مأرب التي تبعد عن مدينة تعز نحو 1000 كم بحسب مدير مركز العزل الدكتور الحسامي الذي تحدث عن صعوبات يواجهها ناقلو الأسطوانات خلال مسافة الطريق و تُحتجز الناقلات أحياناً لأيام، لكن ما يفيد المركز في الموجة الثالثة أن لديه مخزون من الأسطوانات الفارغة التي يتم الاستفادة منها خلال مرحلة الذهاب والإياب لجلب الأكسجين.
يؤكد الدكتور الحسامي بأن مشكلة نقص الأكسجين لن تُحل ما لم تتوفر محطة أكسجين خاصة بمستشفى الجمهوري الذي يتواجد فيه مركز العزل.
نفي رسمي
بعد أن التقينا بمرافقي الحالات المصابة بفيروس كورونا داخل مركز العزل وشهود عيان من الكادر الطبي، وتأكيدهم لنا وجود حالات وفاة اختناقًا داخل مركز العزل بسبب نقص الأكسجين طرحنا السؤال نفسه على مدير المركز الدكتور نشوان الحسامي، فنفى وجود اية حالة وفاة مشيرًا إلى أن نقص الأكسجين كان من الأسطوانات التي يتم تخزينها في المخازن كـ “مخزون احتياطي وليس من الأسطوانات المستهلكة”.
مسؤول الأكسجين في المركز “أصيل الظبي” نفى أيضًا وجود أية حالات وفاة داخل مركز العزل لهذا السبب مشيرًا إلى أنه ومع فريقه الخاص يقومون بتوفير الأكسجين للمرضى في حال نفذت كمية الأكسجين وتأخرت الدينة التي تقوم بنقل اسطوانات الأكسجين من العاصمة المؤقتة عدن.
موجة كورونا الثالثة: كارثة مرتقبة
مطلع اغسطس/آب الحالي بدأت الموجة الثالثة للفيروس في المدينة بالتفشي حيث أعلنت السلطات الصحية في المحافظة عن تسجيل 38 حالة إصابة جديدة بالفيروس. يدعو الدكتور فاروق إلى توفير محطة أكسجين داخل مستشفى الجمهوري حتى لا تتكرر الكارثة التي حدثت في الموجتين الأولى والثانية، وأشار إلى أن المركز بات ممتلئًا بالكثير من الحالات سواء المؤكدة او المشتبه بها، وقال “سنلاحظ في الأيام القادمة ارتفاع في عدد الإصابات وزيادة في عدد حالات الوفاة”.
مع بدء الموجة الثالثة للفيروس رافق جمال الصنوي والدته المصابة إلى مركز العزل بمستشفى الجمهوري، وأشار في منشور له على “فيسبوك” إلى أن بسبب عدم توفر الأكسجين الكافِ في مركز العزل اليوم كانت المدينة ستفقد أكثر من خمسة عشر حالة وفاة ويوجد في المركز أكثر من أربعين حالة إصابة”.
تقاعس منظمة الصحة العالمية
عجزت السلطات الصحية في مدينة تعز عن مواجهة فيروس كورونا نتيجة انهيار النظام الصحي في المدينة التي تشهد حصارًا خانقًا للعالم السابع على التوالي، في ظل الحرب التي يعيشها اليمن فضلًا عن غياب الدور الحكومي ومنظمة الصحة العالمية رغم الاستغاثات والمطالبات المتكررة بحسب مكتب وزارة الصحة بتعز.
نائب مدير مكتب الإعلام بمكتب وزارة الصحة في تعز “تيسير السامعي” يشير إلى أن مدينة تعز تعاني من ضعف الإمكانيات الصحية مثل الأدوية وأجهزة الفحص وأجهزة التنفس ولا يوجد في مدينة تعز سوى جهاز فحص واحد ومركز عزل واحد مؤكدًا أنه ليس هناك أي دعم مقدم سواء من الحكومة الشرعية أو من قبل منظمة الصحة العالمية رغم المطالبات بذلك.
اتهم تيسير السامعي منظمة الصحة العالمية بأنها تعمل بعيدًا عن معايير ومبادئ العمل الإنساني وأنها تخضع لأجندة سياسية مستدلًا بقوله: ” منظمة الصحة العالمية تابعة للأمم المتحدة والأمم المتحدة تعمل وفق أجندة الدول الكبرى”، وأضاف: ” طالبنا الصحة العالمية بدعم الكادر الطبي وتوفير المستلزمات والأجهزة التي يفتقر إليها مركز العزل الوحيد بالمدينة، كما طالبناها بالقيام بدورها بالضغط على كل أطراف الحرب لتحييز القطاع الصحي والعمل على إيجاد ممرات إنسانية للمدن المحاصرة مثل تعز لإدخال الدواء ولكنها لم تستجب لمطالبنا… لكنهم يعتبرونا في تعز أننا إرهابيين لأننا مسلمين وسنة”.
يحمّل السامعي منظمة الصحة العالمية مسؤولية نقص الأكسجين في مستشفيات المدينة وما نتج عن ذلك من وفيات من المرضى ودخول الكثير منهم بمضاعفات نتيجة نقص الأكسجين باعتبار اليمن تحت البند السابع ومن واجب منظمة الصحة العالمية توفير كافة الإمكانيات لمواجهة الأوبئة والفيروسات، وطالب من منظمة الصحة العالمية أن تقوم بدورها وفق معايير ومبادئ العمل الإنساني أو مغادرة البلاد بدلًا من الاستمرار بجمع المساعدات باسم اليمن وإنفاقها بشكل غير سليم عبر صرف غالبيتها نفقات للموظفين حسب قوله.
اتصلنا بمكتب منظمة الصحة العالمية في اليمن للسؤال عن توضيح حول الاتهامات التي تشير إلى تقاعس المنظمة وعدم القيام بدورها في دعم القطاع الصحي في تعز، وقمنا بإرسال رسائل بريدية عبر موقع المنظمة المختص بالشرق الأوسط، وعبر صفحة الفيسبوك الخاصة بمكتب المنظمة في اليمن، لكننا لم نتلقَ أي رد، ولم نحصل على إيضاحات حول المعلومات التي توصلنا لها خلال عملية إنتاج التحقيق.
* تم إنجاز هذا التقرير في إطار مشاركة مراسل النشرة الدولية محمد المياس في برنامج تدريب يضم صحافيين من اليمن وسوريا وفلسطين/غزة، من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي”