شفا غدّار تقيم جدلية بصرية ما بين ماهية الزمن وحدود المساحة

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

تقدّم صالة “تانيت” البيروتية التي تعرّضت إلى تدمير شبه تام عند انفجار مرفأ بيروت معرضا فرديا للفنانة التشكيلية اللبنانية شفا غدّار خارج صالتها وفي باحة واسعة من مبنى “ستاركو” وسط بيروت. معرض حمل عنوان “كاكتوس في أحلام اليقظة”، وهو بمثابة نشيد تهديه الفنانة إلى اللون وعظمته وأيضا إلى فعل الرسم الذي هو جزء من الخلق والتأمل بحقيقة وأبعاد الحياة والموت والزمن.

في نهايات هذا الصيف الذي شهد بالرغم من كل المصائب التي انهالت على لبنان معارض فنية بعضها من وحي السواد المحيط وبعضها الخارج منه ليشيّد عالما أكثر رحمة وأقل بشاعة، تقدّم صالة “تانيت” معرضا جديدا للفنانة التشكيلية اللبنانية شفا غدّار يكشف عنوانه “كاكتوس في أحلام اليقظة” التباسا مُحببا، لاسيما بعد الاطلاع على اللوحات المعروضة.

فمن ناحية تبدو الأعمال كأنها تجسّد الجمالية والثراء اللوني والتمدّد الحيوي لأشواك وانقشاع الأزهار الخاصة بنبات “الكاكتوس” الصابر على العطش والظروف “المعيشية” الخاصة به، وتارة أخرى تغيب مميّزات النبات الظاهرية لقوة حضور الفنانة، وهي بكيانها وعقلها وقلبها في حال اتحاد مع نبات الصبّار الذي بات ناطقا بهواجسها ومُعبّرا عن أحلامها وأوهامها وكوابيسها هي، وليس خاصا بها فحسب، أي بالكائنات النباتية المرسومة.

تجريد صاخب

تميل الفنانة اللبنانية في أعمالها تلك إلى التجريد الصاخب المُحمّل في أكثر من عمل بخطوط دقيقة ذات الألوان القاتمة. خطوط تنمو من هياكل نبات الصبّار لتصبح تارة أشواكا تغرز في عمق العمل الفني وتارة أخرى لتكون أقرب إلى شُعيرات تطفو على سطح المساحات الملونة كما تطفو أوراق الأشجار الخريفية على سطح نهر جار يعجّ بالعشب والحصى الملوّن.

من ناحية أخرى ليست الكوابيس التي تتحدّث عنها نباتات الفنانة هي كوابيس في حدّ ذاتها، بل هي أحلام وأماني خاصة، وعلى الأرجح عامة أيضا وقد تحوّلت إلى كوابيس لأنها لم تتحقّق.

وتشكّل الألوان الحارة التي استخدمتها الفنانة -وينسحب تعبير الحار على لوني الأزرق والأخضر الموجودين بوفرة في أعمالها- خامة وبطانة النبات وليست مجرّد ألوان.

خامة وحالة خاصة وقيمة إضافية تتعدّى جمالها الظاهري المباشر لتصير وجودا رمزيا. وجود يرفض أن يتبدّل مع تتالي مواسم الطبيعة في أعمالها المعروضة حتى التاسع عشر من سبتمبر الحالي.

على الأرجح أن أغلب من نظر إلى أعمال الفنانة شفا غدّار سيعثر على حلم ما يخصّه قد اندثر أو على قيد صراع لا يزال قائما ومُتجليا للعيان أو مخفيّا تحت سماكة الجصّ الأبيض.

كتبت الفنانة نصا مرافقا للمعرض ألقى أكثر من ضوء واحد على أعمالها، وهذا بعض ممّا جاء فيه “أزرق الكوبالت في بالي.. الرغبة في الرسم تزداد شراهة في روحي يوما بعد يوم. لا أذكر بأنّني يوما احتجت فيها لاستخدام اللون بهذه الوفرة.. متى فاتني الشعور بهذه النشوة؟ الرسم فعل ساحر وخادع وكاشف.. هو احتفال باهر بالصمود وإصرار على التمسّك بأحلام اليقظة، لا زلت أحتفظ كالكاكتوس بأشواكي وبمائي وجلد غليظ ونفس تتلاشى. ولكن رغم كل هذا ظللت أتخيّل وأحلم وواصلت النمو”.

وتضيف الفنانة إلى نصها كلمات شديدة الأهمية، إذ تأخذنا إلى عالمها التعبيري/ الحسيّ المفضل، وهو تنفيذ لوحات جدارية جصّية أو ما يُسمى باللغة الإيطالية “فن الفريسكو” فتقول “فن الفريسكو يتّسم بالشجاعة، وأبواب شغفه مفتوحة في الكاكتوس الذي أزهر”.

أبعاد ميتافيزيقية

خطوط دقيقة بألوان قاتمة

وخاصية هذا الفن الذي اعتمدت عليه الفنانة اللبنانية لكي تقيم نصها التعبيري ذا المنحى المفهومي/ الفلسفي هي كون الرسم، في حالة الفريسكو، يجيء وفق مراحل (زمن) وطبقات لونية سميكة ورقيقة (مساحة) متعاقبة فوق الطبقة الجصّية التي لم تجفّ، أي من ناحية متبدّلة ومتحوّلة ومُمتّصة ومن ناحية أخرى حمّالة لثبات السماكة اللونية وحافظة لبريقها ولحدّتها.

عبر تلك الخاصية أنشأت الفنانة حالة من الجدلية لا بل التنافس ما بين ماهية الزمن وحدود المساحة (إن وجدت فعلا) وعلاقتهما مع بعضهما البعض.

وتتالت اللوحات التي لم تعد تقتصر فقط على تصوير حالات “الكاكتوس” العضوية والروحية المتنوّعة، بل طالت كل النباتات وكل ما هو حيّ يحاصره قلق وجودي يتشاركه مع الكائنات الأخرى، كل حسب قدرته ومؤهلاته وظروفه.

معرض “الكاكتوس في أحلام اليقظة” أو لنقل “أحلام يقظة الكاكتوس” واسع، وفيه مجموعة كبيرة من اللوحات حملت عناوين لا تخلو من الشعرية تفضح حالات نبتاتها الوجودية وتكاد أن تكون نصا شعريا متكاملا، إذا نُقّحت وأُدرجت بعضها بعد البعض الآخر.

من العناوين “ليلة في الغابة” و”كاكتوس خلال الليل” و”جلد مزدوج” و”هي التي تاقت إلى اللون الأحمر” و”رسالة بالفحم واللون الأصفر” و”هي التي أصبحت شوكا” و”هي التي خسرت أوراقها” و”هي التي تاقت إلى السماء” و”هي التي نادرا ما أزهرت” و”أشواك”.

والفنانة شفا غدّار ولدت في لبنان سنة 1986 وتقيم حاليا في دبي. تخرّجت من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة حيث حصلت على شهادتي البكالوريوس سنة 2007 وعلى الماجستير في الفنون التشكيلية سنة 2009.

شاركت في العام 2012 بدورة مكثّفة في اللوحات الجدارية الجصّية وتقنيات الرسم التقليدية في فلورنسا في إيطاليا. حازت على “جائزة بوغوصيان للفنون في مجال الرسم” عن لوحة رسمتها في عام 2014.

شاركت في العديد من المشاريع والمعارض الجماعية نذكر منها معرض “إكسبوجر 4” بمركز بيروت للفن 2012، ومعرضي “أون فليتينغ غراوند” بغاليري جانين ربيز 2013، ومعرض “جورني ثرو هِريتيدج” بمركز بيروت للمعارض 2013، ومعرضَيْ “لوسباس دو لا فوي” بغاليري تانيت 2015 و”فيمينيت بلورييه” بغاليري تانيت 2018، ومعرض “مساحة شجرة الأفوكادو” بـ”آرت دبي” 2018، و”صُنع في تشكيل” بمركز “تشكيل” 2018.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى