الصحافة الرياضية كالفلسفة السلسة
بقلم: كرم نعمة
النشرة الدولية –
عندما كنا نقرأ في تسعينات القرن الماضي المقالات المترجمة إلى العربية للجناح الطائر يوهان كرويف، والمايسترو فرانز بيكنباور، بوصفهما صحافيين أكثر من لاعبين سابقين كانا يصنعان الدهشة الحقيقية في الكتابة. فهما لا يكتفيان بالتحليل الرياضي التقليدي، وإنما كانا يبثان أفكارا ملهمة في مفاهيم كرة القدم.
كرويف وبيكنباور ليسا بصحافيين، لكنهما يعبران بما كتباه عن صحافة رياضية مثالية. ومن حسن حظ القراء العرب كان يترجم ما يكتبانه آنذاك.
كان من المفيد أن استحث ذاكرتي لاستعادة تلك المقالات وأنا أكتب عن صحافة رياضية عربية تتردى بطريقة الحث الفيزيائية متأثرة بتردي التحليلات السطحية على القنوات الرياضية العربية.
صحيح أن هذا التردي جامع ولا يقتصر على الخطاب الإعلامي الرياضي، لكنه يكاد يكون الأردأ، لسوء حظ كرة القدم والصحافة معا.
لا يمكن لمثلي أن يمارس رباطة الجأش الزائفة وهو يشاهد ما تطلق عليه وسائل إعلام بالمحلل الرياضي والإعلامي الكبير، بينما هو في حقيقة الأمر تعبير عن السطحية المريعة بامتياز في الحديث عن مباراة العراق وإيران ضمن تصفيات مونديال قطر 2022 الأسبوع الماضي.
هناك فراغ رياضي عميق كان يمرره هذا “الإعلامي الكبير” وهو ينزع الجلالة عن العمق التعبيري للغة ويهين كرة القدم عندما يعدها مجرد شجار حدث في مقهى شعبي!
ومع أن مثله لا ينجو من السخرية العارضة من قبل الجمهور في تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنني أعرض عليه “وهو عرض في كل الأحوال ليس علاجا للصحافة الرياضية العربية” ما كان يكتبه مدرب الأرجنتين الأسبق سيزار لويس مينوتي الذي حمل للمرة الأولى كأس العالم لمنتخب بلاده في مونديال 1978.
كان مينوتي شاعرا بمهنة مدرب كرة قدم وهو يكتب تحليلاته العميقة. ويمكن لنا أن نعد مدرب ليفربول يورغن كلوب محللا رياضيا حاذقا لمجرد أن نستمع إلى كلامه عند الفوز والهزيمة.
لأنني أبدو متحمسا، فلدي مثال متميز وأنا أقدم لاعبة التنس الأميركية فينوس ويليامز بوصفها صحافية تكتب عن تجربتها الرياضية، علني أساعد على حث الصحافيين الرياضيين العرب لمغادرة مقاهي الكلام المكرر
وأيضا من المفيد استعادة ما يقوله مدرب مانشستر سيتي جوزيب غوارديولا بوصفه صحافيا رياضيا بوظيفة ناقد تشكيلي! لمجرد أن يدرك الصحافي الرياضي منا أن هذا المدرب قام بإضفاء طابع كرة القدم على كل شيء تعلّمه، من خلال تطبيق الأفكار في مجاله.
لقد قضى غوارديولا وقتا مع المخرج وودي ألان ولاعب الشطرنج الروسي غاري كاسباروف. وهذا سبب منطقي يجعله يقضي ست ساعات عمل في مكتبه يوميا، بينما يدرب فريقه بالملعب ساعتين لا أكثر!
ولأنني أبدو متحمسا، فلدي مثال متميز آخر وأنا أقدم لاعبة التنس الأميركية فينوس ويليامز بوصفها صحافية تكتب عن تجربتها الرياضية، علني أساعد في هذه الأمثلة على حث الصحافيين الرياضيين العرب، لمغادرة مقاهي الكلام المكرر.
قدمت لنا ويليامز، التي فازت بسبعة ألقاب كبرى وأربع ميداليات ذهبية أولمبية، نفسها هذا الأسبوع كصحافية في مقال ممتع بصحيفة نيويورك تايمز، بطريقة كيف تتأمل عالمها في التنس.
تدافع في هذا المقال عن فكرة أن اللاعب بحاجة إلى المعالج النفسي من دون تردد مثل حاجته الدائمة للمعالج الطبي.
وقيمة المقال ليست بالنصيحة التي تعرضها على زملائها الرياضيين، بل بالقدرة على صناعة الأفكار والدفاع عن جوهرها عند الكتابة في الشأن الرياضي. علينا ألا ننسى، هي عادة تمسك بمضرب التنس وتدافع بشكل ناجح، وليس بالقلم!
استثمرت ويليامز انسحابها من بطولة أميركا المفتوحة للتنس الأسبوع الماضي بسبب إصابة ساقها، لتكتب أن تلك الإصابة تمثل النصف المعروف والمفهوم من جسد اللاعب. هناك ما يصاب به اللاعب يتعلق بذهنه وحيويته ومشاعره، وعليه الاعتراف بذلك من دون تردد أو خجل. فهذه اللاعبة عاشت الضغوط كما رأتها تتجمع في أفق حياتها، مذ كان عمرها أربعة عشر عاما عندما شاركت في أول بطولة احترافية في التنس.
بالطبع كان عمرها آنذاك يسمح لها بأداء بدني ونفسي أفضل مما هي عليه اليوم وقد حققت كل هذا المجد في رياضة تشد العيون على جهتي الشبكة.
كذلك فهمت ويليامز الجانب النفسي في أن تكون قاسية على عقلها في الملعب من أجل الظفر بالفوز. وتكتب “لقد حرصت على عدم إظهار أي ضعف” بعد أن استمعَت إلى نصيحة أمها الأولى “أن أياً من عناصر الفوز لن ينجح إلا إذا اعتنيت بصحتك العقلية”.
كم من لاعب عربي بارع في الملاعب يكشف للجمهور ضحالة وعيه بمجرد الاستماع إلى كلامه، مع أنه يسدد الكرات بدقة مذهلة! تجربة ويليامز ستساعده كثيرا بعد تشخيصها بمرض “اضطراب الشخصية”
كذلك تكشف لنا هذه اللاعبة وهي تمارس المهمة الصحافية في الكتابة، حاجة أي رياضي إلى حياة متوازنة وألا يكتفي بتعريف نفسه كلاعب فقط. هناك ما يتعلق باستمرار الدراسة وتنمية الثقافة والتفكير المتوازن وعدم الاندفاع إلى جني المال بأي طريقة إلى درجة تفقده كل شي.
هكذا تختصر فينوس ويليامز تجربتها التي أرى أنها بمثابة درس لأي لاعب وصحافي عربي، بعبارة “لم تكن حياتي تتعلق فقط بمدى جودة ضرب الكرة. وكذلك لم يكن نجاحي في الملعب فحسب. لقد رأينا جميعا الرياضيين المحترفين الذين تراجع أداؤهم بسبب الأشياء التي تحدث لهم خارج الملاعب والتي تفسد حالتهم العقلية”.
كم من لاعب عربي بارع في الملاعب، يكشف للجمهور ضحالة وعيه بمجرد الاستماع إلى كلامه، مع أنه يسدد الكرات بدقة مذهلة! تجربة ويليامز ستساعده كثيرا بعد تشخيصها بمرض “اضطراب الشخصية”، عندما لم تجد كتابا يساعدها في السيطرة على هذا المرض والتغلب عليه.
تقول “لم يكن أمامي خط مستقيم للعلاج”. لكن بعد سنوات من التفكير، عَرفتْ كيف تبدأ بعدم السماح لمخاوفها بتشويه واقعها الرياضي، مع الاستعانة بمتخصصين في الصحة العقلية والأهم من ذلك كله، تعلمت هذه اللاعبة التي تمتلك ثروة طائلة في حسابها المصرفي، كيف تكون لطيفة مع نفسها وهي تواجه هذه العقبة في حياتها.
تختصر لنا فينوس ويليامز حكمتها العميقة بالقول “قد أكون لاعبة تنس محترفة، لكنني في الواقع لا أعتقد أنني مختلفة عن أي شخص آخر في مواجهتنا جميعا تحديات الصحة العقلية الناتجة عن النكسات والشكوك الحتمية في الحياة”.
لقد نشأ الرياضي وهو يركض وراء الكرة في الملاعب، لكنه مثل الصحافي الرياضي وهو يتابع المباريات بحاجة إلى أن يعبّر عن نفسه بطريقة ملهمة. لذلك أرى فينوس ويليامز في مقالها هذا مثالا متميزا للرياضي بنفس الدرجة للصحافي الرياضي.