هل تستطيع الهند التواصل مع «طالبان»؟
بقلم: ذي دبلومات

 

النشرة الدولية –

من المبرر أن تصدّ الهند حركة “طالبان” بدافعٍ من سياساتها المحلية وقيودها الأخلاقية، لكن يجب أن تجد الهند طريقة فاعلة للتواصل مع تلك الحركة إذا أرادت التحكم بمصالحها الاستراتيجية.

مع سقوط منطقة “بنجشير” الحتمي، واستيلاء “طالبان” على أفغانستان كاملاً تبرز على الساحة تحالفات جديدة قد تؤدي الى وقائع مختلفة عما هو سائد حاليا في المنطقة، وتُعتبر الهند من بين الدول التي تواجه اليوم تحدياً استراتيجياً مخيفاً، إذ لم يبقَ لها إلا عدد ضئيل من الأصدقاء في الوقت الحاضر في أفغانستان.

سبق أن حددت حركة “طالبان” مكانتها في العالم الجيوسياسي الإقليمي في خضم سعيها الحثيث إلى ترسيخ شرعيتها الدولية، ويبدو اليوم أن عدداً كبيراً من شركائها المفضلين يشمل دولاً أقل ودّاً بكثير من الولايات المتحدة الأميركية تجاه نيودلهي، ففي الأسبوع الماضي، سافر رئيس المخابرات الباكستانية إلى كابول في زيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة على نحو غير مألوف، وتكشف التقارير أن حركة “طالبان” أرسلت دعوات إلى باكستان، وتركيا، وقطر، وروسيا، والصين، وإيران، للإشراف على تشكيل حكومتها.

قامت حركة “طالبان” بجهود كبيرة وحثيثة للغاية لطمأنة الهند إلى أنها ستطبّق من جانبها سياسة عدم التدخل في منطقة كشمير وحرصت على أن تكرر تطميناتها هذه في أول بياناتها واتصالاتها مع المسؤولين الهنود بشكل واضح وصريح لا يترك أبدا مجالا للشك في النوايا، فقد تكررت هذه المواقف مراراً. لكن بعد وصول حركة “طالبان” إلى السلطة بوقتٍ قصير، غيّرت الحركة مسارها وجعلت أكبر مخاوف نيودلهي مبررة: قد تتحول أفغانستان التي تديرها جماعة إسلامية في نهاية المطاف من حيث لا يدري المرء إلى ملاذ آمن للمنظمات الإرهابية التي تستهدف كشمير، وفي مقابلة حديثة مع قناة “بي بي سي”، قال المتحدث باسم حركة “طالبان”، سهيل شاهين، إن جماعته تنوي رفع صوتها دعماً للمسلمين في كشمير وأعاد التأكيد على هذا الأمر أكثر من مرة أثناء المقابلة كأنه يريد أن يطمئن الهند حول هذه النقطة بالذات فيمحو القلق السائد بهذا الشأن.

لكن رغم الخلافات الكثيرة والمستعصية بين الهند وحركة “طالبان”، تملك نيودلهي حتى الآن فرصة قيّمة للتواصل بشكل مباشر فورا مع هذه الحركة بما يضمن الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية من أي هجوم أو أذى محتمل في الوقت القريب أو البعيد معا، ويمكنها أن تُحقق هذا الهدف بطريقة حذرة ومن دون الإساءة إلى مصالحها أو المجازفة بها وهو أمر تسعى إليه أساسا منذ مدة.

ومن حق المحللين في كل مكان أن يشكّوا طبعا في استعداد حركة “طالبان” للتخلي عن أيديولوجيتها الصارمة، فهم لا يظنون أبداً أن الحركة هذه قادرة على التغيّر أصلاً، وتثبت تصرفات “طالبان” أنهم محقون في تحليلاتهم هذه لأنها مبنية على وقائع لا على مجموعة من الأوهام التي لا أساس لها على الاطلاق وترتكز هذه التحليلات على أدلة حسية وملموسة، فمنذ وصول الحركة المتطرفة إلى السلطة، بدأ المقاتلون التابعون لها يُضعِفون حقوق المرأة في أجزاء مختلفة من البلد، وقد لاحظت الأوساط الدولية هذا الأمر وبدأت التقارير الدولية تتحدث عن الأمر على الشاشات وفي البرامج الإذاعية وفي الصحف والمجلات، لكن هذا لا يمنع أن نشير إلى أن العالم الذي يحيط بحركة “طالبان” تغير اليوم وهو مختلف أو لا يمت بصلة إلى عهدها الوحشي الذي كان سائدا خلال التسعينيات.

في عهد “طالبان” الذي امتد على خمس سنوات، بين عام 1996 و2001، وعلى مر السنوات التي سبقت وصولها إلى السلطة، كانت الحركة تحصل على التمويل الأساسي والدعم في المقام الأول من الأنظمة المختلفة الغنية بالنفط، لكن مع مرور السنين، تضررت تلك العلاقات تدريجاً، بدءاً من عام 2009، وفي تلك السنة طرد رئيس المخابرات السعودية، الأمير مقرن بن عبدالعزيز، المبعوث السياسي لحركة “طالبان” طيب آغا، بعدما رفض هذا الأخير التنديد بتنظيم “القاعدة” علناً.

بعد وصول حركة “طالبان” إلى السلطة الآن، وجدت الحركة نفسها معزولة عن داعميها السابقين، وفي الشهر الماضي، هاجم أحد قادة “طالبان” الداعمين السابقين علنا مما أدى فوراً وبشكل مباشر إلى توتر ملحوظ للعلاقات بين حركة طالبان وداعميها المعتادين، وفي حين كانت حركة “طالبان” تتابع استيلاءها على البلد كانت السفارات الحليفة تجلي موظفيها بشكل كبير وسريع.

لم تحبذ حركة “طالبان” خسارة داعميها السابقين في حين كانت هي تنشغل بالاستيلاء على بلدٍ غارق في أزمة اقتصادية مريعة ويعاني مشاكل مختلفة على أكثر من صعيد، في خضم جهودها الأولى لتعزيز علاقتها مع العالم الخارجي، زاد اتكال حركة “طالبان” على إيران وباكستان والصين، لكن لتوسيع استقلالية الحركة الاستراتيجية، من المتوقع أن تبحث حركة “طالبان” بشكل حثيث عن شركاء جدد لها في مجال التنمية، مما يعني أن تعمل الحركة على التواصل بشدة اليوم مع حلفاء جدد يختلفون عن الشركاء القدامى. خلال الأسبوع الماضي أيضاً، دعا شاهين ألمانيا إلى تشجيع رجال الأعمال فيها على المجيء والاستثمار في أفغانستان، وكانت هذه دعوة لبناء شراكات جديدة بعيدة كل البعد عن التحالفات السابقة وهو أمر تفعله الحركة للمرة الأولى وبالتالي يبدو حاضرها اليوم مختلفا عن ماضيها بشكل كبير.

تُمهّد هذه الضغوط الاقتصادية المتزايدة أيضاً لزيادة الفرص المتاحة أمام نيودلهي، وسبق أن بدأت الهند تتفوق على الجميع منذ الآن وتطرح نفسها كقطب اقتصادي محتمل قد يحسب له حساب، وعلى مر العقدين الأخيرين، طوّرت الهند وجوداً واسعاً لها باعتبارها شريكة تنموية في أفغانستان، وظهر هذا الأمر بوضوح وبشكل ملموس طبعا، فأكدت الهند مرارا وتكرارا وأكثر من مرة حُسن نواياها أمام الشعب الأفغاني، وباتت مطّلعة على طبيعة القاعدة الشعبية هناك، فهذان العاملان قد يجعلان الهند تنافسية الى حد كبير جدا بغض النظر عن هوية الحاكم في كابول.

تشير التقديرات والدراسات الحالية إلى بلوغ الاستثمارات الهندية في أفغانستان ما مجموعه أكثر من 3 مليارات دولار، بما في ذلك مشاريع البنى التحتية الأساسية مثل الطرقات والسدود وخطوط الكهرباء والاتصالات ومئات الخطط التنموية المختلفة أخرى، وسبق أن ذكرت حركة “طالبان” أنها تأمل إطلاق مشاريع إضافية مع الهند وكان ذلك اشارة واضحة الى دفء العلاقات بين الطرفين.

لكن مهما يكن من أمر سيكون أكبر تحد أمام الهند سياسياً بطبيعته، فقد حاولت نيودلهي تحقيق هذه المصالح وبذلت جهوداً حثيثة في الفترة الأخيرة للتواصل مع “طالبان”، لكن هذه الجهود بدأت تضعف منذ الآن بسبب سياساتها المحلية.

سيتجه الناس في ولايات هندية مهمة إلى صناديق الاقتراع خلال بضعة أشهر، ويحاول قادة من “حزب بهاراتيا جاناتا” الحاكم الاستفادة من المخاوف التي أجّجها وصول “طالبان” إلى السلطة في أفغانستان، لكن ذلك يعني استعمال خطابات معادية لطالبان، وفي أواخر الشهر الماضي، اتّهم زعيم في “حزب بهاراتيا جاناتا” خصومه في ولاية البنغال الغربية بتبنّي “عقلية طالبان”، وفي أماكن أخرى، لام نائب من “حزب بهاراتيا جاناتا” حركة “طالبان” على التضخم المتفاقم، ثم جاءت تعليقات “طالبان” حول كشمير لتزيد الوضع سوءاً.

في حين تحاول نيودلهي تقييم خياراتها المحدودة في أفغانستان، أصبح البلد عالقاً في وضع حساس، فهو مضطر لتجديد توازن سياساته بجميع الطرق الممكنة لتجنب عدد كبير من العواقب غير المرغوب فيها، ومن المبرر أن تصدّ الهند حركة “طالبان” بدافعٍ من سياساتها المحلية وقيودها الأخلاقية، لكن يجب أن تجد الهند طريقة فاعلة للتواصل مع تلك الحركة إذا أرادت التحكم بمصالحها الاستراتيجية، لأنها تملك أصلاً نفوذاً كبيراً ويمكنها الاستفادة منه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button