الرواية ذاكرة تأبى النسيان

النشرة الدولية –

منشورات بث –

لئن مثّل  فن الكتابة أحد أدوات التعبير عن الواقع المعيش  فأن الرواية الواقعية  بالتحديد احد أهم الكتابات التي تصور الواقع وتكشف عن خفاياه فهي بمثابة صورة سينمائية ترشد الجماهير قصد توعيتها ودفعها الى مقاومة النسيان والصمود أمام الجوائح. في هذا الصدد كتبت الدكتورة  أم الزين بن شيخة[1]  روايتها “طوفان من الحلوي في معبد الجماجم ” حيث تقوم بدورها البيداغوجي والتعليمي  من اجل ربط الفرد بواقعه دون حياد وموضوعية فهي ترغم  القارئ على الوعي بالتناقض.

موقع منشورات بث

ان  الطوفان الذي يرغب الكبار في رؤيته وان يكون من الحلوى تزداد رغبة الأطفال في لقائه لكن أن يكون في معبد الجماجم  يهرب منه الجميع .هكذا جعلتنا نقبل على العمل ونرغب فيه لما شّدنا الى الوطن بجباله وسهوله وأنهاره ونهرب منه حين نخوض معاركنا الوجودية وكأني بها منفصلة عنه  . الرواية تضمنت ملحمة إنسانية بطلها رسام يرسم بجمالية جماجم بشرية خزنت في ذاكرتها محبة الوطن لما كانت له وفية ولم تدخر جهدا في الدفاع عنه .الرواية كما الراوية غذت فينا شعورا كدنا نفقده أمام ضحالة المشهد السياسي وانزياح الثورة عن مشروعها الوطني والإنساني  فجعلت بطلها الفنان يرسم ويعيد الحياة للأموات فكأني به اله “الفن وحده بوسعه إعادة المقتولين الى الحياة …فليكن ..إن كل المقتولين إنما هم جديرون بحياة أخرى “[2] ويؤرخ أحداثا لمعركة البقاء  بقاء الجبل ليذكرنا بمعارك التحرير الوطني ويؤكد أنّها لم تتوقف مادام الإنسان مازال يذبح باسم الاله .طوفان من الحلوى سيغرق الجماجم الخاوية وينبت أزهارا يحلى بها جبين الوطن بعد أن ينقشع ظلام المشهد السياسي الذي نشر الموت واللاّعدالة  في كامل البلاد” العدالة لا تأخذ أبدا  مجراها في دولة تقتل القتيل وتسير في جنازته “[3].

أم الزين بنشيخة أثناء تقديمها كتابها في دار الثقافة بن خلدون

لم تستثن الراوية العالم في روايتها  لتفتح نوافذها على  الكوني الايتيقي  فان  كان الإرهاب يدمر البلاد والعباد كان كذلك فيروس الكورونا يمارس فعل القتل في كامل أنحاء العالم فتبدي الرواية  بذلك تضامنها وتعاطفها مع هذا الكائن الضعيف الذي سمي إنسانا ربما  لكثرة نسيانه آلامه فهو  يصارع فوارس من الدهر إذ  ينحني لها  أحيانا ويقف أمامها مقاوما  أحيانا أخرى ، لكن فطنة الكاتبة  التي تجعل من العلم دواء لداء الجهل الذي تفشى في البلاد وداء المرض الذي قضى على حياة الإنسان  كثيرا ما تساعده ليتجاوز المعضلات التي تعترضه إذ تعيده الى واقعه حتى لا يغفل عنه.

لمّا كانت الرواية تاريخية وواقعية من حيث أنّها ذكرت شخصيات بأسمائها وأهمها  “دادة زعرة “أم الشهيدين  خليفة ومبروك السلطاني  من أجل ضمان تسجيلهم في ذاكرة من ليس لهم ذاكرة  وكأني بها تحذو حذو أفلاطون عندما أكد على أن”  المعرفة تذكر والجهل نسيان”  لتقول لتكن أنسانا عليك  أن لا تنسى   انك بالضرورة إنسان  ولتعرف انك تحيا بالقيم الكونية  ولن تلج الى الحداثة التي تميزت بالفن  لمقاومة القبح  إلا بالعلوم العقلانية التجريدية والتجريبية  لان الممارسة تشحذ الذاكرة وتحصن الهوية .

لقد  تمسك أبطال  الرواية كالطبيب وابنته ميارى والرسام بالعلم  فكانت شخصيات محركة للإحداث واقعية وليست تخيلية مما يجعل الرواية تلتصق بواقعها المعيش ويجعل من الكاتبة المثقف العضوي بتعبير غرامشي  حيث عملت على تعرية هموم الإنسان في بلد أنهكه الإرهاب الذي تغذى من الفقر والجهل والاستبداد.

إن هذه القضايا لا يمكن معالجتها إلا بحرية التفكير والكتابة التي تحررنا من آلام والأوجاع التي يشعر بها المثقف فيتقاسم مع شعبه أزماته لكنه في الآن نفسه يتعالى عليها ليبتكر لها الدواء الشافي . إننا في رواية طوفان من حلوى نجد صدى محمود المسعدي عندما يقول ” إن الأدب مأساة او لا يكون “من زاوية أن الرواية تروي مأساة عائلة وقرية تسكن جبل المغيلة ومأساة وطن يرزح تحت ضربات الإرهاب الذي تحول الى صناعة بدل صناعة العلم ومأساة شباب متعلم وصاحب شهائد يصارع الجهل والبطالة ” لا حرج فكل الأدمغة الذكية أيضا هي معطلة عن العمل في بلاد لم تعد تتسع للأذكياء …بل صارت إسطبلا للحمقى و اللوبيات و العصابات والقتلة “[4]. ومن زاوية أخرى نجد الانفراج في شخصية ميارى التي تصنع الحلوى رغم المحن لتنشر البهجة والفرح  ونجد كذلك ملحمة الصمود فكما كان السد موقع صراع  غيلان مع الآلهة صهباء نجد الجبل موقع صراع الرسام مع الإرهابيين  فغيلان الرسام لم يأبه بسيطرة الآلهة الجدد نعني بهم  الإرهابيين الذي يقررون الموت والحياة ، بل قارعهم بفنه ليعيد المياه الى مجاريها وتعود الرعاة الى الجبل بأهازيجهم .  فهل مزال من الممكن أن تعود أغاني الصباح بعد أن تفشى مرض “الزهيمر” الذي  يتلف الذاكرة ويهدم مخزونها “إن ثمة مرضا عقليا يتمثل في فيروس من نوع جديد يتسلل الى الدماغ ويلتهم المنطقة الخاصة بالذاكرة ..وان العالم كله مهدد بان يصير بلا ذاكرة  وبالتالي بلا ماض ..وسيختل الزمن في عقول الناس الى حد لن يميزوا فيه بين ما حدث وما لم يحدث بين الواقع والخيال ..بين الأحلام والكوابيس “[5]   لقد فقد مريضها الذاكرة بعد عملية جراحية ناجحة نعم النجاح تمثل في قصف الذاكرة والهوية .فهل بقي عبد الباقي كما هو ثابتا شامخا شموخ الجبل أم انه تعرض  الى “الجنون العمومي”  وكأني بالرواية تذكرنا بأهمية الفضاء العمومي الذي دنسته البذاءة السياسية وفوضى الحرية السلبية   لقد حملت الرواية فكرة ناظمة عبرت من خلالها الكاتبة على أنها ابنة واقعها فهي لم تتخيل أحداث لتشغل قارئها بأفكار رومانسية  وأحيانا افتراضية بل أن حديثها عن لحظة الحب كانت ممزوجة برائحة أعشاب الجبل وعطر الوطن  فكانت الأرض منبتنا وملجأنا  نستعيض بها عن السماء التي يبدو أنها كان سبب البلاء رغم ما تنزله من أمطار كثير ما تكون نافعة أحيانا  قبل أن تتحول الى طوفان يخشاه الكبار والصغار فما أحوجنا الى سفينة نوح لترفع الفضيلة وتترك الرذيلة ويصبح على الأرض ما يستحق الحياة بتعبير محمود درويش بعد أن يتحقق رجاء عودة الحب والتآزر والتضامن بين بشر نشطوا ذاكرتهم فعادت إليها الحياة ” ستعود الفراشات والعصافير وكل الكائنات الحية المهددة بالانقراض الى الحياة “[6]   .                                        هكذا يكون الفن أصيلا عندما يصير مفهوما وينقل واقعا رغم مرارته فيقاوم النسيان و” يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية “بتعبير بابليو بيكاسو حيث يخاطب أصحاب الذاكرة ويبني لهم معبد الذاكرة لن يكون في شكل متحف  بل مزارا  له طقوسا وكاهنا في صورة فنان .

د. صلاح الدين سحبون

حمام الشط 12/07/2021

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى