روايات الخوف من “طرابلس لبنان”… تدهور دراماتيكيّ في الأمن، سلاح ومخدرات!
النشرة الدولية –
النهار – جودي الأسمر
يوماً بعد يوم، يتجلّى ألا رادع ولا حدّ للتدهور الدراماتيكيّ في #أمن طرابلس حتى بات من الصعب إحصاء الحوادث الأمنية التي تتلاحق على مدار اليوم. فمنذ أكثر من شهرين ثمّة محاولات للقتل بالسلاح، والسلب، وانتشار ملثّمين ومسلّحين على الدراجات النارية، على وقع أزيز الرصاص، ودوّي القنابل لأسبابٍ مجهولة، وحيث محطات الوقود تحوّلت إلى مسارح جرائم أو محاولات للقتل، خصوصاً في ساعات المساء حين يستفحل الفلتان ابتداءً من ساعة الغروب.
لا شكّ أنّ في خلفيّة هذا الواقع ارتباطاً بأزمة الوقود وغلاء المعيشة، وأنّ كلّ ما يتداعى عن الاختناق الاجتماعي شكّل عبر التاريخ فرصة لهيمنة الأسواق السوداء والمجموعات الخارجة على القانون؛ وفي زمن الأزمة اللبنانية، يتنازع هؤلاء مغانم الشارع ضمن محطات الوقود ومولّدات الكهرباء.
لكن خصوصيّة طرابلس المُفزعة تظهر كالآتي: تقع الحادثة، ودولة القانون لا تعاقب المعتدي، فـ”هل ثمّة ملجأ غير الأمن الذاتي، إن كنت ظالماً أم مظلوماً؟” بتعبير أحد المواطنين ضمن شهادات، تستعرضها “النهار”من مناطق التبانة والمنكوبين والقبّة وباب الرمل الأكثر تضرّراً من التسيّب الأمني، وفي أمنها السائب تستفحل آفات العشائرية والسّلاح والإدمان.
“أحمل سلاحاً حين أتجوّل”
لا يتردّد محمد مسعدة (22 سنة) من باب التبانة في الحديث عن سلاح يحمله حين يتجوّل في الشارع؛ فالأمر لم يعد سرّاً، و “ليس منه بدّ. فخطيبتي تقطن في باب الرمل، وحين أنهي زيارتي لها مساءً، سأسلك نقاطاً خطرة بالقرب من جامعة العزم وعند دوّار أبو علي، حيث تُرمى القنابل ويُطلق الرصاص. لم تعد العراكات تنشب بالأيادي. لم يعد غريباً أن يشهر علينا طفل السنوات العشر سلاحاً، وأكثر الضحايا أبرياء. قد يكون المُصاب امرأةً على البلكون أو طفلاً أو بائع خضراوات على عربته”، هذا ما ينقله الشاب الذي يعمل مياوماً في محلّ للألبسة، وترك التعليم باكراً “لأنّ أحداً لم يشجّعني. ولو تأمّنت للشباب فرص عمل لكان انشغل كلّ منا برزقه”.
ومنذ أيّام، أُطلق الرّصاص في الهواء احتجاجاً على غلاء الأسعار “فشّة خلق واعتراض”، لأن دواء ضغط للأب “سعره 11 ألف ليرة، أراد الصيدلي بيعه بـ450 ألفاً. حين تكون يوميّتك 25 ألفاً، ومصروفك يتخطّى المئة ألف، فمن أين تأتين بالمال؟”.
يستبعد أن تتكرّر جولات التبانة – جبل محسن “لأنّ أغلب الخلافات تنشب بين عائلات الحيّ الواحد، وسببها إمّا خلاف شخصيّ وإمّا تعدٍّ على ممتلكات. لكن الدولة لا تعاقب مَن يُطلق النّار ويسرق، ولو جعلت واحداً من المعتدين عبرة لغيره لكان الجميع تريّث قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة. لكن جميعهم يحتمون بهذا الزعيم السياسيّ أو ذاك، فيتكفّل بتغطيته أمام الأجهزة الأمنية”.
بعدما نعمت التبانة ببعض سنوات استقرار، يتّضح أنها كانت هدنة بين أزمتين. تباينت الخلفيّات، والنتيجة واحدة: مَن يعش خارج التبانة يتجنّب دخولها، وأهاليها يتجوّلون بحذر، وللضرورة “أمشي في الشارع، ألاحظ أن رفيقي زاغ نظره، وارتخت شفتاه، فأفهم أنه يتعاطى الحشيش. لن ألومه. المخدّرات متداولة على الملأ، ويكاد لا يخلو بيت من السلاح لأن لا دولة تحمينا”.
“تراند” إطلاق الرصاص على الأرجل
“المنكوبين” الواقعة بين التبانة ومخيم البداوي “اسم على مسمّى، وتحمل مآسي جيرانها، بالإضافة إلى مشكلاتها المزمنة من انعدام وجود مدارس وفرص عمل، وهذا ما يجعلنا نخاف على أطفالنا الذين ينشأون في بيئة هشّة مفتوحة على كلّ المحظورات، ويُنبئنا بأنّ المنطقة تصطدم بأفق أسود”، بحسب ابن المنطقة سمير مهنّا، الناشط الاجتماعي وخريج إدارة الأعمال.
وتنشط حالياً كما في السابق، ولكن بوتيرة أعلى، “سوق الدراجات النارية المسروقة، التي تباع بثمن زهيد جداً، وتستقطبها “المنكوبين” من تخوم القلمون ولغاية مخيّم البداوي حيث تنتشر الأسلحة والمخدّرات وتنتقل إلى المنطقة”.
وتتكثف المشكلات بين عائلات في “المنكوبين”، وبعضها من وادي النّحلة والبداوي، “مع أو ضدّ رئيس بلدية البداوي، فيكيّلون لبعضهم بإطلاق الرصاص على الرِجلَين خصوصاً، والتي باتت عادة معتمدة للتهديد من غير الإصرار على القتل، لكنّها تكلّف الضحية عطباً مدى الحياة، وقد يفقد عضواً من جسمه. ومنذ مدّة، رُشّ جارٌ لنا بـ30 رصاصة، وأُطلقت النارُ على مولّدات الرفاعي من دون معرفة السبب ولا الفاعلين”.
في قانون أسرة سمير “ممنوع الخروج من البيت بعد المغرب”، واقتناء الابن السلاح. “لا أقول إنّ الأجهزة الأمنية متواطئة، لكن بماذا نفسّر أنّ مطلقي النار أحرارٌ طلقاء؟ الأمن الذاتي بات ضرورة، والشاطر مَن ينجو بنفسه وأسرته وممتلكاته”.
“صديقي يدمن المخدّرات”
أمّا القبة، فتنتكس اجتماعياً وأمنيّاً بوتيرة رهيبة، علماً بأنها تضمّ ثكنات للجيش، وفروعاً للجامعة اللبنانية، والمستشفى الحكومي، وكانت تُشكّل حضناً للأسر ذات الدخل المحدود الّتي عاشت بعد الحرب الأهليّة فترة من الاستقرار والعيشة المتواضعة. الوضع تراجع بالتدريج، متأثراً بالنزوح الريفيّ وزحف البؤس من الجيران في التبانة وجبل محسن، إلى أن وقعت شوارعها الآن، وخصوصاً في أحياء الشعراني والراهبات تحت سيطرة المسلّحين وعصابات السّلب ووكلاء المخدّرات.
ومثالاً، تعرّض مؤخراً عضو بلدية طرابلس أحمد حمزة لإطلاق نار في القبة، حيث أقدم المدعو “ع.ه.ح”، يرافقه “ع.ع.ف”، مستقلّاً دراجة نارية، على إطلاق الرّصاص من رشّاش حربيّ باتّجاه حمزة من دون إصابته، قبل أن يفر مُطلقا النار إلى جهة مجهولة. وقد علم أن الاعتداء وقع بدافع تصفية خلافات سابقة. ونامت القبّة على أصوات الرّصاص في شارع الجديد، أطلقها شبان على إثر اعتداء وقع ضدّ “س.ع” من صهره لابنته “ع.ف” قرب جامع البشير بعد ظهر أمس، حيث أطلق الأخير النار على والد زوجته وأخيه بسبب مشكلات طلاق.
وفي معلوماتنا متعددة المصادر أنّ حيّاً في القبّة، يقطنه تاجر حشيش، يُدعى “ع.م”، فيدخل إلى بيته شباب الحيّ حيث يتعاطون المخدرات فيما الأجهزة متغافلة عنه، وهو لا يزال يزاول أعماله بكلّ ثقة.
“أنظر إلى جاري ورفيق الطفولة متقوقعاً في زاوية، ويبدو أنه أُصيب بالدوخة، وارتخت ملامحه، واحمرّت عيناه. أقترب منه فأشمّ رائحة المخدرات. كلّما أنظر إليه، يؤلمني ما فعل بنفسه. وحين يعود إلى المنزل يضربه أبوه ليعاقبه، لكنه يعود للشارع، ويغوص في إدمانه. أتعلمين؟ صرت أشمّ رائحة المخدّرات في الهواء”، تقول ليال (27 عاماً – أمّ لطفل وطالبة ماستر تربية).
وكانت ليال أحالت شقيق هذا الشاب إلى جمعيّة “أم النور” لمعالجته من الإدمان، بعدما وصل إلى مرحلة تعاطي الكوكايين.
“حين يترك أخي المنزل، ننتظره طوال الوقت لحين عودته. صرت أخاف أن أمشي بمفردي في المساء. أخاف أن أحمل حقيبة يد. أخاف أن أقول لصاحب الدكان “أسعارك مرتفعة”، لأنه قد يشهر عليّ السلاح. الوضع خلال جولات التبانة – جبل محسن لم يكن بهذه الخطورة. كنّا حينها نعلم أن المعركة ستنقضي بمعدّل عشرة أيام، ونتجنّب زيارة الحيّ المجاور. جغرافيا وزمان الموت كانت معروفة، أمّا اليوم فالموت يحوم حولنا في كلّ حيّ وكل ساعة”.
تخطّط ليال لترك حيّ بل مدينة، فـ”لم أعد أشعر بالانتماء إليها” تقول، بعد قرارها الهجرة إلى تركيا؛ “أمّي تركيّة الأصل، ولحقها مرسوم التجنيس في تسعينيات القرن الماضي. في الأشهر الأخيرة، سبقني أقربائي إلى أضنة وإسطنبول وإسكندرون، وأسعى الآن لتأمين إقامة للحصول على الجنسيّة، أقلّه لأستطيع تأمين الدواء والحليب والطبابة لطفلي”.
“هدّدونا بالقتل فدفعنا المال”
واللافت حالياً انتشار وبيع السلاح التركي لدى باعة عشوائيين لا يمتهنون عادة هذا الكار، لكنه يشكّل لهم اليوم مورد رزق، إذ يبلغ سعر المسدس 300 إلى 400 دولار، والسلاح الجيّد قد يصل سعره إلى 700 دولار.
في السياق، يتحدّث إلينا مواطن عن موقف غريب يعكس علانية هذه الظاهرة “عرض عليّ أحدهم عبر “واتساب”، ومن رقم غريب، شراء مسدس تركيّ، وأعطاني مواصفاته، فقلت له ربّما أخطأت الرقم. أكمل حديثه كأنّ شيئاً لم يكن. كنت أتوقّع أن يحجب رقمي، أو أن يخشى أن أشتكيه إلى جهاز أمنيّ، فأنا لا علاقة لي من قريب ولا من بعيد بالسلاح”.
والمتحدّث بائعٌ وأبٌ لأسرة يرتزق من محلّ أدوات تجميل في منطقة الجسرين، إلا أنّه وقع في أحد الأيام تحت “تهديد عصابات السطو التي تريد مصادرة ملك خاص يعود لعائلة زوجتي، فهدّدونا إمّا بالقتل وإما بدفع المال، فرضخنا للتهديد من خلال وساطة مع إحدى العائلات”. وانساقت العائلة إلى هذا الخيار “بعد إبلاغنا أحدَ كبار ضبّاط مخابرات الجيش، فكان الجواب أن المخابرات لا تتدخّل، وستحاول تمرير رسالة لهذه المجموعة بأن تكفّ يدها”.
يؤمّنون الدواء والوقود
وتتميز دينامية الأمن في منطقة باب الرمل بأنّها لا تزال في قبضة المكاتب السياسية التي تشغل غياب الدولة، فـ”يفضّون عراكاً، أو يؤمّنون لنا الأدوية من سوريا وتركيا أو البنزين من الأسواق السوداء، وقد يغطّون تهمة مسلح أو سارق. فلكلّ مكتب سياسيّ اختصاصه”، على ما يُشير الشاب أحمد زعاطيطي، أحد سكّان المنطقة وخريج قسم الهندسة المدنيّة في إحدى الجامعات اللبنانية.
لم يلمس الشاب تراجعاً كبيراً في الوضع الاقتصادي للمنطقة “لأنها تعتاش من خدمات تصليح السيّارات وقطع الغيار، وجميعها مدفوعة بالدولار”، لكنها كبقية المناطق تعاني غياب الخدمات. وتتقاسم هذه المهام عائلات مؤيّدة للرئيس ميقاتي، وأخرى تستفيد من خدمات الوزير السابق فيصل كرامي للإحالة على المستشفى الإسلامي خصوصاً في منطقة الدفتردار، ومفاتيح للنائب محمد كبارة.
مَن يطلق الرصاص؟
لا يعرف الشاب، لكنه يثق بـ”أن الخلافات عشائرية ولأسباب تافهة. وأحياناً يتولى خطباء المساجد فضّ المشكلات، فالدين لا يزال يتمتع بسلطة في منطقتنا، ويلجم وقوع الأسوأ”. وليحمي أحمد نفسه، يسعى إلى كسب ودّ الجيران خلال أدائه الصلوات في المسجد، “أنا لا أحمل السلاح، لكن كلّ بيت تقريباً يحوي السلاح، وشعوري بالأمان منعدم. أعدّ أوراقي للسفر إلى إفريقيا”.