إيران والانقلاب الناعم والمتدرج للعسكر
بقلم: حسن فحص
النشرة الدولية –
خاض الحرس الثوري الإيراني مساراً طويلاً للوصول إلى النقطة التي بات يشغلها ويلعبها اليوم في الحياة السياسية الإيرانية. فمنذ الانطلاقة التي بدأت من ضرورات فرضتها الحرب مع العراق والحالة غير المستقرة التي كان يعيشها الجيش النظامي الذي كان في حالة انعدام وزن نتيجة التغيير الحاصل في النظام وخروج أو إعدام العديد من قادة الصف الأول. وهي الحالة التي دفعت إلى اتخاذ قرار بتجميع اللجان الناشطة في الثورة في إطار موحد اختير لها اسم عقائدي ينسجم مع رؤية الثورة الإسلامية، فكان الإعلان عن تأسيس قوات الحرس الثوري.
وكان من المفترض بهذه القوة الحديثة والناشئة أن تلعب دور الرديف والمساعد في ملء الفراغات والحاجات في جبهات القتال، إلى جانب وحدات الجيش النظامي، وساعدتها لاحقاً قوات التعبئة الشعبية من متطوعين لتكون تشكيلاً آخر رديفاً لقوة الحرس الثوري وخزانه من المقاتلين.
على الرغم من الحساسية التي نشأت بين المؤسستين، وتمظهرها بعدم ثقة الحرس بالجيش المتهم بعدم ولائه للثورة الإسلامية، واعتماده عقيدة قتالية قائمة على المدرسة الأميركية. عملت هذه القوة الجديدة على تكريس مواقعها سواء على جبهات القتال أو في الداخل من خلال تولي عناصرها الثوريين مهمة تأمين حياة قادة النظام بما في ذلك حراسة مقر إقامة الزعيم المؤسس بعد أن ازدادت واتسعت علميات الاغتيال للعديد من قادة الصف الأول. ما أسهم في تسريع تحولها إلى قوات موازية للمؤسسة العسكرية النظامية الرسمية. ولم تتأخر التطورات بتكريس هذه القوات كمؤسسة مستقلة من خلال تشكيل وزارة خاصة بها أول من تولى منصبها محسن رفيق دوست في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، واستمرت حتى سبتمبر (أيلول) 1988. ليعلن عن الاستغناء عن هذه الوزارة بعد انتهاء الحرب ووفاة المؤسس الراعي الأول لهذا التشكل، وذلك لمصلحة تشكل قيادة مشتركة للقوات المسلحة تضم الجيش والحرس والتعبئة وإسناد مسؤولية القيادة لضابط من الحرس يعينه المرشد الأعلى القائد الأعلى للقوات المسلحة.
واستمرت عملية استجماع مواقع النفوذ وانتزاع الأدوار لهذه المؤسسة على حساب المؤسسات الأخرى للدولة، واتسعت دائرتها لتخرج عن الطابع العسكري لتشمل المواقع والإدارات والأدوار التجارية والاقتصادية والصناعية والثقافية والتربوية وغيرها، على مثال ما آلت إليه مؤسسة الجيش الأحمر السوفياتي. وكان من الطبيعي أن يظهر داخل هذه المؤسسة الطموح للإمساك بالعمل السياسي انطلاقاً مما حققته في المجال الاقتصادي وتحولها إلى إمبراطورية مالية واقتصادية أكبر من مؤسسات الدولة العامة، إلى جانب إمساكها بالشريان الحياتي الذي ينعش القطاعات الخاصة التي باتت عاجزة عن منافستها وتحولت إلى قطاع من المتعهدين بالباطن من الشركة القابضة للحرس التي حملت اسم “مقر خاتم الأنبياء للإعمار والبناء”.
السعي أو الطموح للعمل السياسي جاء نتيجة مسار بدأته هذه المؤسسات بشكل واضح في توليها مسؤولية التصدي للمشروع الإصلاحي الذي حمله الرئيس محمد خاتمي، وكانت حينها تحت عباءة المرشد والقائد الأعلى للقوات المسلحة وتنفذ أوامره وسياساته والاستراتيجيات التي يرسمها على المستويات السياسية الداخلية والخارجية. إلا أن التحول بدأ بالتبلور والظهور مع تجربتها الفاشلة مع رئاسة محمود أحمدي نجاد، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية التي فرضته على رأس السلطة التنفيذية لدورة ثانية عام 2009، عندما واجه النظام تهديداً حقيقياً من الثورة الخضراء والحشود التي خرجت إلى الشوارع معترضة على ما سمته تزويراً للنتائج على حساب المرشح الذي تبنته القوى الإصلاحية والليبرالية مير حسين موسوي، خصوصاً أن التحدي كان عالياً بعد أن خرجت معظم المدن الإيرانية عن سيطرة النظام. ما سمح لتدخل تشكيلات الحرس الدور الأساس في إعادة الانتظام وفرض السيطرة وتثبيت سلطة النظام التي اهتزت.
هذا الدور تزايد مع التظاهرات والاعتراضات التي شهدها عهد الرئيس حسن روحاني، خصوصاً في الفترة الانتقالية ما بين عامي 2018 و2019 أو ما عرف حينها بأزمة رفع أسعار البنزين، عندما تدخلت أجهزة الحرس لقمع المتظاهرين بعنف غير مسبوق وأدت إلى سقوط أكثر من 350 قتيلاً باعتراف وزير الداخلية.
في موازاة الدور الداخلي، وصل الدور الخارجي إلى ذروته من خلال ما قام وتقوم به الذراع الإقليمية للنظام المتمثلة بفيلق القدس الذي كان يقودها الجنرال قاسم سليماني، وتحول إلى الجهة التي تمسك بالقرار الدبلوماسي وتحدد السياسات الخارجية للنظام والدولة واتجاهاتها. وهنا، يمكن العودة إلى التسريب الصوتي لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف عن الصراع بين الدبلوماسية والميدان.
هذا الدور المتنامي سمح للحرس الثوري بأن يكون رأس الحربة في محاربة الإنجاز المفصلي الذي حققه روحاني في الاتفاق النووي، والمساعدة في إفراغه من مضمونه أو أهدافه التي من المفترض أن تخرج إيران من عزلتها الدولية ويكسر حلقة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وقد استطاعت تحقيق هذا الهدف، خصوصاً في منع روحاني من تسجيل إنجاز الاتفاق باسمه على سجل النظام والدولة والثورة، وتعليقه بانتظار أن تفرض إرادتها في إيصال من تريد إلى رئاسة السلطة التنفيذية، لتكون الأداة المساعدة في تفكيك عقدة العقوبات والحوار مع المجتمع الدولي.
مع انتخاب إبراهيم رئيسي خلفاً لروحاني، بدأت تظهر بشكل واضح التأثيرات التي مارستها قيادة الحرس مدعومة من المرشد الأعلى. ولعل أبرز تعبير عن ذلك، هو حصول جنرالاتها المتقاعدين على الحصة الأكبر في الحكومة الجديدة، وهو مسار بدأ مع الانتخابات البرلمانية إذ احتل أكثر من 60 جنرالاً من الحرس المقاعد النيابية في المجلس الجديد الذي يرأسه الجنرال محمد باقر قاليباف. في حين أن حصتها في الحكومة تبدأ بالرئيس الذي يعتبر جزءاً من هذه المؤسسة إلى جانب ما يمثله من بعد ثيوقراطي للمؤسسة الدينية. لتتدرج من فريق عمله الاقتصادي المقرب المتمثل في النائب الأول محمد مخبر ومستشار الفريق الاقتصادي الجنرال محسن رضائي، مروراً بالجنرالين حسين دهقان ورستم قاسمي ووصولاً إلى وزير الداخلية الجنرال أحمد وحيدي.
ولعل وحيدي يعتبر المؤشر الأبرز على النفوذ الذي باتت تمارسه مؤسسة الحرس، خصوصاً مع تكليف المرشد الأعلى وحيدي بقيادة القوات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية (الأمن العام والأمن الداخلي وقوات مكافحة الشغب والشرطة البلدية والمحلية وغيرها من دوائر أمنية وعسكرية)، وهو تفويض يحدث للمرة الأولى منذ وصول علي خامنئي إلى موقع المرشد الأعلى، إذ لم يحدث أن حصل ذلك مع أي من وزراء الداخلية السابقين، فضلاً عن أن خامنئي رفض أن يفوض رئيس الجمهورية وحتى الآن مهمة النيابة عنه في قيادة القوات المسلحة. وقد لجأ وحيدي نتيجة للتفويض الذي حصل عليه إلى سلسلة من التغييرات على مستوى المحافظين وقادة المحافظات من خلال إسنادها لعسكريين متقاعدين من الحرس من دون العودة إلى الحكومة أو أي جهة رقابية أخرى.
وإلى جانب سيطرتها على مفاصل السلطة التنفيذية، مدت مؤسسة الحرس يدها إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، بإعلان تعيين الجنرال محمد باقر ذو القدر خلفاً لمحسن رضائي في موقع سكرتير هذا المجلس، وهو المعروف بأنه من أعمدة الفريق الموالي للمرشد الأعلى داخل الحرس مبكراً، والجهة الأكثر فعالية في تغيير مزاج هذه المؤسسة وتقريبها من المرشد وتثبيت نفوذه داخلها. في حين أن مجلس صيانة الدستور الذي يحدد صلاحية المرشحين للانتخابات البرلمانية ومجلس خبراء القيادة ورئاسة الجمهورية يصدر قراراته بناء على التقارير الأمنية التي تقدمها أجهزة الحرس، فيرفض أهلية من لا يوافقون عليه ويؤيد من يريدونه. وقد استطاعت هذه الأجهزة إقصاء رفسنجاني بذريعة الحفاظ على المصالح العليا للنظام بعد أن رأت أنه بات يشكل تهديداً لشعبية النظام والمرشد.
هذا الانقلاب الناعم والمتدرج الذي مارسه الحرس الثوري لنفوذ، نقله من كونه موالياً للقائد المؤسس وبعيداً عن أي نشاط سياسي واقتصادي، إلى موقع الداعم للقيادة في تثبيت أركان سلطتها، وصولاً إلى الانتقال ليكون شريكاً للقيادة في تقاسم السلطة والحكم. فهل تكون النقلة الأخيرة أن يتحول الحرس إلى الجهة التي تحدد من سيكون على رأس النظام ومن يتولى موقع القيادة ويكون ولياً للفقيه وآمر المسلمين؟