تحديات الخروج اللبناني من أزمة وجودية
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
من الغرائب في لبنان أن النظام طائفي والدولة مدنية، ومن العجائب أن الدولة يمكن أن تسقط كما حدث في الحرب، أو تضعف كما يحدث اليوم، ويبقى النظام قوياً، فالنظام طائفي لأنه يعكس طبيعة المجتمع ويوزع السلطة بين الطوائف، والدولة مدنية لأنه لا نص في الدستور على دين الدولة، على عكس دول كثيرة. ومن هنا كان التمييز بين “الميثاق الوطني والصيغة”.
الميثاق هو العقد الاجتماعي لخيار العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين على أساس المساواة الكاملة، والصيغة هي ترتيب التقاسم في السلطة التي عليها إدارة العيش المشترك أي “الرسالة” كما يقول الفاتيكان، وإدارة الشأن العام، وما حدث من خلافات وصراعات منذ الاستقلال كان يوضع في إطار السعي لتغيير النظام، في حين أنه عملياً في إطار العمل لتعديل الصيغة، أي تركيب المشاركة في السلطة. لكن مسار الصراعات الداخلية على الأرجحية في السلطة والخارجية على النفوذ في لبنان قادنا إلى أزمة وجود أكبر من الميثاق والصيغة والدولة والبلد، فكل الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية هي أزمات على سطح أزمة الوجود في العمق، وكل مساعي التسويات والحلول تتعلق بالأزمات التي على السطح، وأحدثها أزمة التلاعب بتأليف حكومة فات عليها الوقت في خريف العهد، ولا شيء عملياً حول أزمة الوجود.
وعلى العكس، فإن أزمة الوجود تزداد حدة من خلال التأثر بأربعة عوامل، أولها التمدد الديموغرافي وهجرة الأدمغة والنخبة من الأطباء والأساتذة والخبراء وانهيار الطبقة الوسطى التي هي عمود الديمقراطية والعيش المشترك، وثانيها تفاهة التركيبة السياسية التي تدير السلطة وفسادها وجشعها وسطوها على المال الخاص والعام ورهانها لقوى خارجية، وثالثها تحويل لبنان بكل تراثه وثقافته ودوره وحيوية شعبه إلى ورقة في الألعاب الإقليمية والدولية وآخرها المفاوضات النووية بين أميركا وإيران، ورابعها أخذ البلد إلى “محور الممانعة” ضد العرب والغرب وربطه بمشروع إيراني إقليمي من خلال الأدوار المحلية والإقليمية التي يقوم بها “حزب الله” سواء على صعيد الهيمنة على القرار في السلطة أو على صعيد “العسكرة” لطائفة لبنانية والانخراط في حرب سوريا والعمل في اليمن والعراق، ولا يبدل في ذلك دور “المقاومة الإسلامية” في مواجهة الخطر الإسرائيلي.
ولا مجال لوقف التمدد الديموغرافي، ولا شيء يوحي أن تغيير التركيبة السياسية التافهة ممكن بالانتخابات، ثم أن الانقضاض على “الثورة” الشعبية السلمية جاهز، ولا قدرة على منع القوى الإقليمية والدولية والزعامات المحلية التابعة لها من اللعب بالورقة اللبنانية، ولو قاد اللعب إلى أعمق هاوية مالية واقتصادية كما حدث في موضوع الحكومة. أما المشروع الإقليمي لتغيير لبنان، سواء في إطار جعله “ولاية” أو في إطار التغيير الكامل للنظام والميثاق والصيغة من دون تغيير الحدود الدولية، فإن مواجهته تحتاج إلى العمل على أكثر من جبهة.
أولاً على الجبهة الداخلية لجهة التمسك باتفاق الطائف الذي يتآكل عبر الممارسة، ثم تشكيل كتلة شعبية تاريخية سيادية تحرص على التجدد في لبنان، وثانياً على الجبهة العربية، حيث الضرورة لعودة لبنان الفعلية إلى محيطه العربي وعودة العرب إلى الاهتمام به وعدم تركه للنفوذ الإيراني بحجة أن فيه من يهاجم الدول العربية، ومن لا يجرؤ على الوقوف في وجهه، وثالثاً على الجبهة الدولية لجهة الرفض القوي لأي توجه أميركي أو أوروبي للمقايضة على لبنان والتخلي عنه مقابل مصالح في المنطقة، كما حدث في الحرب وبعدها ويحدث اليوم.
ذلك أن لبنان، من “المتصرفية” في القرن التاسع عشر إلى “لبنان الكبير” في القرن العشرين، كان حاجة محلية وإقليمية ودولية وله وظيفة ودور. ومن السهل اللعب به، لكن من المستحيل تغيير تاريخه وطبيعته وتراثه وإشعاعه، فلا مجال لأخذه إلى المدار الإيراني، مهما تكن قوة الملالي ووكلائهم، ولا لإقامة دولة دينية في بلد من 18 طائفة.
وقديماً قال مستشار النمسا “مترنيخ”،”لبنان هذا البلد الصغير من الحكمة أن نصونه من العنف”.