عن الفنانة صليحة “أم كلثوم تونس”: شقاء وحياة مضطربة!
النشرة الدولية –
عربي 21 – بثينة عبد العزيز غريبي –
تمر هذه الأيام ذكرى رحيل الفنانة التونسية صليحة، التي ولدت في العام 1914، أي بداية الحرب العالمية الأولى وتأثيراتها على تونس، وعاشت إلى حدود سنة 1958، بعد حصول تونس على استقلالها سنة 1956.
ونشأت صليحة في بيئة ريفية وانتقلت للعيش في تونس العاصمة، تم تهميشها في مرحلة ما والتنمر عليها، ما حرمها من حقوقها، وفي المقابل تمسكت بفنها الى آخر نفس في حياتها حتى إنها هربت من المستشفى من أجل تمثيل تونس في محفل مغاربي.
صليحة أو Édith Piaf العرب
يمر الآن على وفاتها أكثر من نصف قرن أو تحديدا 63 سنة، ولكن ثروتها الموسيقية هي “رأس مال” الكثير من الفنانين التونسيين.
ولكن ما من أحد تجرأ على الخوض في سيرتها بعمق، وهذا لعدة أسباب منها أن ابنتها الفنانة التونسية الراحلة شبيلة راشد كانت توصد الأبواب أمام كل محاولات النبش في تفاصيل حياتها.
صوتها وثروتها الفنية وكل الصحف التي قرأتها في تلك الفترة دفعتني إلى مبادرة فردية بالبحث في تاريخ هذه الفنانة، ولفتني أيضا ما قاله الموسيقي محمد التريكي عنها: “الفنانة التي كانت آلامها تطرب الجماهير”، والإشادة بها من قبل كل من خميس ترنان وصالح المهدي وعلي الدوعاجي واغة والعبيدي، وخلف هذا الصوت الكبير والخامة المتفردة تقبع الشخصية التي عانت وقاست كثيرا وقتلتها آلامها في سن مبكرة حيث لم تتجاوز الأربع والأربعون سنة.
صليحة الخادمة
منذ كان عمرها عشر سنوات وهي تشتغل في البيوت كخادمة، من قصر الباي التونسي إلى منزل المطربة التونسية بدرية والتي كانت تنظم الجلسات الموسيقية في منزلها وتستضيف مجموعة كبيرة من الموسقيين والمغنيين.
وكانت صليحة تسترق دائما السمع إلى هذه الجلسات الموسيقية ومن خلاها تدربت على الغناء بمفردها إلى أن اكتشفت بدرية أمرها فطردتها خوفا من أن تتحول إلى منافستها مستقبلا.
وبمرور السنوات ما كان فرضية عند بدرية صار حقيقة حين أصبحت صليحة فنانة الرشيدية الأولى (الرشيدية أهم مؤسسة موسيقية على المستوى الوطني).
كيف صارت الخادمة الفنانة الأولى في تونس؟
كانت صليحة وهي تقوم بالشؤون المنزلية في بيت بدرية، تغني فيصل صوتها إلى الشارع إلى أن سمعها أحد الموسقيين بالرشيدية وهو مار من جانب المنزل دون أن يدرك صاحبته. فاعتقد أنها بدرية. وفي المساء أثناء الجلسة الموسيقية أيقن أن من سمعها صباحا لم تكن بدرية.
ولاحظ في الآن ذاته غياب صليحة فخلص إلى أنه صوت هذه الأخيرة. وظل يبحث عن صليحة إلى أن وجدها سنة 1939 حيث قام بتسجيلها في الرشيدية.
وإلى أن يجدها سوف تعيش واحدة من أكبر الفنانات التونسيات مرحلة من أكثر مراحل حياتها شقاء بين الخدمة المنزلية والاستغلال والتحرش.
التنمر
حين التحقت صليحة بالرشيدية اعتقدت أنها بداية مرحلة مضيئة في حياتها، وصحيح كانت مرحلة ناجحة فنيا ولكن إنسانيا كانت المرحلة الأشد قهرا وظلما.
فبعض الفنانات سخرن من شكلها ومن ملابسها الرثة والفقر الذي كان واضح في كل تفصيلة في جسدها وسلوكها ولما استوعبن قيمتها الفنية عملن جاهدات من أجل المساس بهذه القيمة وترويج الإشاعات عنها وتقزيمها.
ويذكر شاهد على تلك الفترة أن بعض فنانات الرشيدية في تلك الفترة يوجهن الدعوة لصليحة للسهر والمجون حتى يدفعنها للغياب عن تمارينها الموسيقية الصباحية في الرشيدية.
شكلها
“طويلة القامة نحيلة القد يكاد عودها يتكسر كجريد نخل يتكسر تحت عصف الرياح.. ضامرة الوجه كالعنز.. لم تكن جميلة بالمرة وزاد في قبح شكلها الوشم الذي امتلأ به وجهها على عادة أهل البداوة” بهذه الكلمات كانوا يصفونها وبسبب هذا التنمر حاولت في إحدى المرات أن تتخلص من الوشم بـ”ماء الفرق”.
منذ وصولها إلى العاصمة التونسية وتحديدا إلى “المدينة العربي” كانت تتعرض إلى التقزيم والإهانة بسبب بداوتها، وهذه البداوة المكشوفة على وجهها، كانت المعاناة الأولى التي جعلتها في مرحلة ما تشعر باليأس الشديد من إمكانية اندماجها داخل مجتمع “البلدية” (والبلدية هم سكان المدينة الذين يرون أنفسهم الأكثر رقي وتحضر ويستعبدون أبناء الريف ويقللون من شأنهم).
التهميش
ودفعت صليحة ثمن النجاحات التي حققتها للرشيدية. فإحدى الفنانات التي كانت تغار منها، مارست سلطتها المادية على رئيس الرشيدية آنذاك حتى يبعدها عن العرش لتأخذ هي مكانها.
ومنذ ذلك الوقت بدأت هرسلة هذه الفنانة البدوية التي قال عنها أحدهم “تحمد الله أنها لم تعش في مرحلة التلفزيون وإلا لكان انكشف قبحها” ، بدأت هرسلة صليحة بمختلف الطرق منها: في أواخر الأربعينات وتحديدا سنة 1949 ، تعلن الرشيدية أن صليحة لم تعد قادرة على متابعة التمارين الموسيقية بسبب إصابتها بضعف في الذاكرة وأكد حاجتها إلى ملقن.
وهو ما بدا غريبا لدى البعض من أحبائها الذين استنكروا ذلك خاصة وأن الفنانة التونسية لم تتعدى آنذاك الـ35 سنة وكانت أشبه بمعجزة فرغم أنها أمية فقد أدت مجموعة من القصائد باللغة العربية الفصحي مثل “هجر الحبيب”، “عذل العواذل والهوى فؤادي”، “عش حالما بالوصال” و “يا زهرة”.
مضايقات
عثرنا على مراسلة من الفنانة التونسية صليحة إلى رئيس المعهد الرشيدي كانت تقول فيها التالي:
“تونس 16 جوان 1956”:
“سيدي مصطفى الكعاك رئيس المعهد الرشيدي دام حفظه
سيدي،
إني ابنتكم المصححة أسفل هذا أحيط الجناب علما بأن تخلفي عن القيام بواجبي نحو المعهد الذي أدين له ببعثي للوجود في عالم الفن كان للأسباب التالية:
1/ سوء الأخلاق التي أصبح يتخلى عنها غالب المنخرطين فيه
2/ احترام المهنة الفنية التي أصبحت يتعاطاها كل من لا يشم لها رائحة
لذا فاني أرجو من الجناب أن تخصصوا لي حصى أسبوعية لا أدخل الى المعهد الا في الوقت المضروب
كما أني أرجوكم أن تخصصوا لي أجرة شهرية قدر ب 30 ألف فرنك في الشهر حتى أتمكن من الاستغناء بها عن الحفلات التي تتزامن ويوم عمل الفني بالمعهد
وختاما تفضلوا سيدي الرئيس بقبول أزكى تحياتي واحر سلامي
ابنتكم المخلصة صلوحة”.
تكشف هذه المراسلة عن المضايقات المعنوية والمادية التي كانت تتعرض لها صليحة والتي جعلتها تخير العمل في “الكافيشانطا” على متابعة دروسها في الرشيدية.
وقد تأكد هذا الخلاف بين صليحة والرشيدية في كتاب كانت هذه المؤسسة قد أصدرته توثيقا لجزء من تاريخها. فرغم ان صليحة كانت الاسم الذي قدم العديد من النجاحات في الرشيدية، فقد تم ذكر اسمها في الكتاب وكأنها فنانة من الدرجة الثانية أو الثالثة.
قصة وفاة صليحة
في زيارة إلى قرية نبر بمدينة الكاف والتي نشأت فيها صليحة، وبالاستماع إلى شهادات عدد من الشخصيات الثقافية، وبالاطلاع على بعض المراجع، توصلت إلى أن صليحة ومنذ الاصطدام الأول بطبقات المجتمعات الراقية كانت تهرب إلى الكحول لتتناسى معاناتها.
وقد أضر ذلك كبدها. ويذكر الموسيقي رضا القلعي أنه سنة 1957 وفي حفل في مدينة الكاف سقطت من فوق المنصة التي كانت مصنوعة من الخشب والتي كان من السهل سقوطها بمجرد الوقوف عليها.
وعادت إلى البيت تظن أنه مجرد حادث بسيط ليتبين فيما بعد خطورته، وقام الطبيب بفحصها فحصا شاملا ليتوصل أن هنا تمزق في كبدها.
ومباشرة تم إدخالها إلى غرفة العمليات ليفرض عليها فيما بعد المكوث لثلاث أشهر في البيت. ولم تستطع صليحة العيش خارج عالمها الموسيقي. فاستأنفت نشاطها الفني منذ الشهر الأول دون إذن طبيبها وهو ما جعلها تخضع لعملية ثانية.
وهذه المرة سوف ينبها الطبيب إلى أن أي محاولة منها لاختراق نظامها الصحي سينهي حياتها. فجسدها لم يعد يحتمل عملية جراحية ثالثة.
الهروب من المستشفى
رغم تحذيرات الطبيب وبمجرد أن علمت “أم كلثوم تونس” كما كانت تلقب، بخبر الحفل الموسيقي المغاربي والذي ينتظم لأول مرة في تونس وتحديدا المسرح البلدي، شعرت آنذاك أن على عاتقها مسؤولية تمثيل تونس في هذا الحفل. فلم تجد من حل سوى الهروب من المستشفى متجهة نحو المسرح البلدي.
هناك صعدت على المسرح بثياب رثة وشعر منكوش وغنت وهي مسنودة على كرسي، غنت “مريض فاني” ويقول أحد النقاد آنذاك: “والله لا نعرف هل غنت يومها صليحة أم بكت.”
قالت جريدة النداء سنة 1958 في تقرير حول وفاتها :”كانت تأخذ من المباهج ما يأخذه كل محب للحياة والمرح العجول ولكن في نفس الوقت كانت لا تقيم للدنيا وزنا فكانت تسهر حتى الفجر لتعاقر الخمر عمل بالمثل: “اليوم خمر وغدا أمر”. البعض كان يعتبر أن صليحة أقدمت على الانتحار ببطئ لمعاقرتها الخمر باستمرار”.
وقال محمد التريكي أنها تعبت كثيرا إلى درجة أصبحت ترمي بنفسها إلى التهلكة غير آبهة بشدة المظالم التي تعرضت لها.
إن هذه الفنانة التي قدمت الكثير لتاريخ الأغنية التونسية ورغم أنها لم تلق الاعتراف اللائق بها بعد وفاتها اذ ينحصر في إحياء ذكرى أو استغلال أغانيها من بعض الفنانين.
ولكن رغم المضايقات ورغم الهرسلة دافعت عن طموحها وتشبثت بحلمها وصمدت. ولعمري، هذه هي المرأة التونسية المبدعة التي صنعت لنفسها مكانة في زمن كانت المكبلات على جميع الأصعدة ولكن مزقتها وحلقت بعيدا دون أن تنتظر من يدافع عن حريتها. لأنها حرة بالفطرة.