إيران وجدلية الحكم بين الثيوقراطية والديمقراطية
بقلم: حسن فحص
النشرة الدولية –
قد يكون النظام الإيراني من أكثر أنظمة الحكم تعقيداً، ويدار بكثير من الدقة والحذر من قبل مجموعة من رجال الدين والسياسيين والقيادات العسكرية والمدنيين، معتمدين على مسار تراكمي من الأفكار والعادات والأعراف والبنى النفسية المترسخة في الاجتماع الإيراني منذ مئات القرون، وتُعتبر العامل الأبرز في خلق نوع، أو الحد المطلوب، من الثبات والاستقرار لهذا النوع من أنظمة الحكم.
تتداخل في تركيبة وهرمية السلطة في نظام الحكم والسلطة في إيران أبعاد مختلفة ومتناقضة، كل واحد منها يمثل نوعاً من أنواع أو مدارس السلطة وأنظمة الحكم، وهي ميزة تاريخية لا يكمن حصرها في العصر الحديث ما بعد انتصار الثورة الإسلامية، وإن كانت هذه المرحلة شهدت أعلى مستويات تمظهرها العملي، ومحاولة تحديثها لتنسجم من المستجد الفكري لآليات الحكم على الأقل خلال القرنين الأخيرين، فهو من ناحية يقدم كل المعطيات التي تسهل عملية تصنيفه في خانة الأنظمة الثيوقراطية، كونه يمثل سلطة المؤسسة الدينية ويقوم على مبدأ ولاية الفقيه الذي يُعتبر بحسب التوصيف الديني والفقهي لهذا الموقع، ممثلاً للإرادة الإلهية على الأرض، انطلاقاً من كونه نائباً للأمام الغائب المهدي ويحكم باسمه، واستمراراً لسلطة الائمة الإثني عشر في المذهب الشيعي الذين يُعتبرون أوصياء وحلفاء للرسول محمد المعيّن حاكماً مطلقاً من الله على البشر والأرض.
ومن ناحية أخرى، يقترب كثيراً من نظام الحكم الملكي المطلق الذي ينسجم مع الموروث الاجتماعي والشعبي الذي عشش في اللاوعي للمجتمع الإيراني عبر التاريخ القديم منذ آلاف السنين، وهو نظام وإن كان بشرياً، فهو أيضاً يعتمد على العامل الديني في تثبيت وتكرس سلطته وحكمه، لأن المزج الأول بين الديني والزمني بدأ مع كورش الكبير الذي لم تكتمل سلطته إلا بعدما قامت الملائكة بوضع التاج على رأسه إيذاناً بتأييد الإله له، وهي الآلية ذاتها التي أسس لها الشاه الصفوي قبل أكثر من أربعة قرون عندما طوّع النص الديني وجعله في خدمة السلطة الزمنية التي تحولت إلى شريك للسلطة الدينية ومتحكمة فيها.
هذا الموروث التاريخي الزمني والديني استعاده أيضاً الشاه الأخير للحكم الملكي محمد رضا شاه، عندما شعر بحاجة إلى تكريس سلطته الزمنية وتثبيت دعائم حكمه في مجتمع يعتبر الدين أحد أبرز المؤثرات والمحركات له، فلجأ إلى مد يده إلى الغيب مستمداً الدعم منها، معتبراً أنه يمثل ظل الله في الأرض.
مع “الثورة الإسلامية” بقيادة المؤسس روح الله الخميني انقلبت المعادلة، إلا أنها بقيت في الإطار نفسه الذي يخدم آليات السلطة وضروراتها، فهو القادم من المؤسسة الدينية، مما يعني أنه يمتلك الشرعية الدينية والفقهية وحتى الإلهية، بحكم كونه ولياً للفقيه والمنظّر الجديد لإعادة إحياء فكرة الحكومة الإسلامية التي تمنحه السلطة المطلقة، ولكونه “نائب الإمام” كما سبق وذكرت، وبالتالي فإنه القادر على منح السلطة الزمنية الشرعية الدينية التي تريدها أو تحتاجها لتكريس سلطته وأركان حكمها، أي أن مبدأ الانطلاق بات من الديني نحو الزمني، في وقت كانت المعادلة التاريخية تنطلق من الزمني نحو الديني.
استطاع الخميني استيلاد نظام هجين مركب من الثيوقراطية والديمقراطية عندما أعلن أن النظام الجديد الذي سيقوم على أنقاض النظام الملكي هو نظام “جمهوري إسلامي”، أي أن السلطة الحاكمة تصدر عن التعاليم الإلهية التي تمسك بها المؤسسة الدينية، في إطار نظرية “ولاية الفقيه” التي تحولت إلى نص دستوري تعطي من يجلس على قمتها صلاحيات مطلقة زمانية وغيبية، بناء على القاعدة القرآنية “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم” (سورة الأحزاب، الآية 6) والقراءة الدينية لسلطة ولاية الفقيه المستمدة من الأئمة الذين يستمدون سلطتهم من الرسول، الذي يحكم بصورة مطلقة بتفويض من الله خالق العباد.
وإلى جانب هذا البعد الأيديولوجي الذي يضع نظام الحكم في دائرة الأنظمة الشمولية، تم اعتماد الآليات الديمقراطية لاختيار وانتخاب المستويات الأخرى في النظام والدولة، الذين يتولون الإدارة بموافقة ونيابة أو تكليف الولي الفقيه، باعتبار أن هذه الآليات وصندوق الانتخاب مهمتها مساعدة الولي الفقيه في تعيين الأفضل والأقرب إلى رؤيته، والملتزم بالبعد الأيديولوجي للنظام من خلال إشراك عامة الشعب في هذا الاختيار، من دون أن يسقط المشرّع أو المقنن للآليات الديمقراطية من حساباته، فاستحدث مؤسسات ومراكز قرار تتبع مباشرة الولي الفقيه، وتتولى مسؤولية استبعاد أي شخصية أو فرد يخرج عن المحددات التي يضعها الولي الفقيه أو مؤسسة النظام والعقيدة الدينية، مثل “مجلس صيانة الدستور” ومؤسسة يمكن تسميتها بمجلس الخدمة المدنية التي تتولى مسؤولية “تفتيش العقائد” لأي فرد يسعى إلى أن يكون في جهاز إدارة الدولة، ومدى ولائه والتزامه برؤية النظام الأيديولوجية.
ومنعاً لتكرار الماضي القريب وما تعرضت له حركة رئيس الوزراء محمد مصدق مطلع خمسينيات القرن الماضي من انتكاسة على يد المؤسسة العسكرية التي انقلبت عليه، واستطاعت فرض إرادتها وإعادة الشاه إلى السلطة والحكم المطلق الذي بدأ يأخذ بعداً أيديولوجياً وغيبياً مستمداً من التأييد الإلهي.
وعكف فقهاء كتابة الدستور المدنيون والمنتمون إلى المؤسسة الدينية على حد سواء، على تضمين النصوص الدستورية مواد تمنع أو تقطع الطريق على تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي أو المؤسسات الدولية، من خلال تحديد عقيدتها العسكرية بتولي مسؤولية الحفاظ على النظام الإسلامي في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، وأن يكون خاضعاً مباشرة لسلطة الولي الفقيه، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة بكل صنوفها وتشكيلاتها، وباعتبار هذه المهمة “مقدسة” لما فيها من دفاع عن النظام الإسلامي الذي يُعتبر امتداداً لحكم الأئمة والأنبياء، إلا أن التشريع والقانون لدور المؤسسة العسكرية لم يصمد أمام الحقائق التي فرضتها التطورات والتحديات التي مر بها النظام خلال العقد الأول من عمره، والذي اختزن إمكان تحول كبير في اتجاهات جديدة كانت تنتظر غياب المؤسس، لتعبر عن نفسها وتكرّس وجودها كقوة مؤثرة ومقررة في توجهات النظام ومؤسساته.