براغماتية “طالبان” في العودة للحكم وتأثيرها في الجماعات المتطرفة

النأي عن "القاعدة" والامتناع عن شن عمليات إرهابية في الخارج قد يقودان إلى القبول الدولي

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية – سوسن مهنا –

منذ عودة حركة “طالبان” لتسلم الحكم في أفغانستان، تُثار أسئلة عدة، على مثال، كيف ستكون علاقتها ببقية الجماعات المتطرفة، نظراً إلى ترابط مسار الحركة مع منظمات إرهابية عدة على رأسها تنظيم “القاعدة”.

“طالبان” التي كانت قالت عقب مقتل أسامة بن لادن في مايو (أيار) 2011، إن “إمارة أفغانستان الإسلامية تعتقد أن استشهاد الشيخ أسامة سيبث روحاً جديدة في الجهاد ضد المحتلين”، انقلب خطابها الحالي بتعهدها للمجتمع الدولي بأنها لن تسمح بأن تصبح أفغانستان قاعدة للإرهابيين الذين قد يهددون الغرب. لكنها “الأرض الآمنة” التي استقر بها بن لادن منذ عام 1998 بناءً على صفقة مع “طالبان”، بحيث تكون أفغانستان مركز انطلاق عمليات “القاعدة”، ما أوجد لها نفوذاً كبيراً تمتعت به فيما بعد، فهل من الممكن المراهنة على فك ذلك “الترابط الروحي” بينهما؟ لا سيما في وقت تشير دراسات عدة صادرة عن مراكز أبحاث أميركية إلى أن الأميركيين يعلمون أن هناك قيادات من “القاعدة” ما زالت تقوم بأعمال استشارية سياسية لـ”طالبان”، ما يعني أن “تعهدات الحركة” تحتاج إلى وقت وأدلة كي تثبت صحتها. إضافة إلى أنه عندما تولى الزعيم الحالي لـ”طالبان”، هبة الله أخوند زاده، القيادة بعد وفاة الملا أختر محمد منصور في غارة جوية أميركية في مايو 2016، لم تعترف “طالبان” علناً ببيعة أيمن الظواهري ولم تنكرها. ويشير مراقبون إلى أن هذا الغموض بعدم الاعتراف بالبيعة هو ما يثير الجدل حول العلاقة بين المجموعتين. كما زادت عودة محمد أمين الحق، القيادي في “القاعدة”، ومسؤول أمن بن لادن سابقاً، إلى مسقط رأسه في ولاية ننغرهار جنوب شرقي أفغانستان، غموضاً على صلات الحركة بـ”القاعدة” وبأنها قد تكون مستمرة، فضلاً عن المعلومات التي تقول إن لـ”القاعدة” علاقة وثيقة بشبكة “حقاني الأفغانية” التي تنضوي تحت راية “طالبان”. وتوضح هذه المسألة المعضلة التي تواجه الحركة حالياً، فهي من جهة تعمل كل ما بوسعها لنيل اعتراف دولي بحكمها لأفغانستان وما ينتج عن ذلك من مكاسب، ومن ناحية أخرى، لا يمكنها التنكر بسهولة لتحالفها مع “القاعدة”، ما قد يؤدي إلى نفور المتشددين حول العالم، والجماعات المتطرفة التي رحبت بسيطرة الحركة على أفغانستان.

“طالبان” حركة أصولية قبلية

خرجت “طالبان” بوصفها حركة دينية إثنية قومية، من رحم قبائل البشتون وتحكمها علاقات قبلية، وتبقي نشاطاتها داخل نطاق أفغانستان. يقول ديفيد غاردنر، محرر الشؤون الدولية في “الفايننشال تايمز”، في مقال له، بعنوان (Taliban victory signals a defeat for global jihadism) ” انتصار طالبان يشير إلى هزيمة للجهاد العالمي”، نُشر في السابع من سبتمبر (أيلول) الماضي، إن “عودة طالبان هي ظاهرة قبلية أكثر من كونها انتصاراً للإسلامية العالمية التي توحّد الأمة أو المجتمع الإسلامي العالمي”. ويضيف “صحيح أن التدخلات الغربية الفادحة التي تجاهلت الخصوصية السياسية والسياق التاريخي والهوية المحلية ساعدت في انتشار مجموعة عابرة للقارات من السلاسل الجهادية، من جنوب آسيا إلى منطقة الساحل التي لا يمكن لأحد السيطرة عليها، حتى أكثر المتلاعبين خبرةً باليأس المتطرف مثل داعش”. “ومع ذلك، فإن الحرب العالمية على الإرهاب، وهي خطأ جعل الطابع المحلي للتمرد المتشدد متجانساً، حجب أيضاً حقيقة أن أحداث 11 سبتمبر ولِدت من فشل جهادي متكرر”. ويضيف أن “المحاربين القدامى في الجهاد المدعوم من الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي (سابقاً) في أفغانستان، وشن حركات تمرد في الجزائر ومصر والسعودية، كل هذا فشل. وهذا ما استندت إليه استراتيجية أسامة بن لادن العالمية لضرب العدو البعيد في الولايات المتحدة، مستنداً إلى فرضية أن مثل هذه الاعتداءات من شأنها أن تثير انتقاماً غربياً شرساً بما يكفي لإثارة انتفاضات إسلامية لاكتساح الحكام العرب والمسلمين، أي العدو القريب في الداخل”.

“داعش” كتنظيم خرج من رحم “القاعدة”

لكن ماذا عن العلاقة بين “القاعدة” و”داعش”، ذلك التنظيم الذي خرج من رحم القاعدة؟ ولمَ هذا الكره المتبادل؟
بدأ انفصال التنظيمين بعضهما عن بعض مع اندلاع الحرب السورية، عندما قرر أبو بكر البغدادي توسيع نشاط “داعش” من العراق ليشمل الأراضي السورية. بداية، كان هناك ترحيب من قبل الظواهري لدخول الحرب السورية ودعا في كلمة مصورة في يونيو (حزيران) 2011، إلى “الجهاد في سوريا”، لكن البغدادي كان له رأي مختلف بحيث أنشأ “جبهة النصرة لأهل الشام” كفرع مستقل لـ”القاعدة” في سوريا، بزعامة أبو محمد الجولاني كقيادة منفصلة عن التنظيم في العراق. ذلك الأمر أوجد خلافاً حتى عام 2013 حين أصدر الظواهري أمره للبغدادي بالامتثال، لكن الأخير رفض، وأعلن وضع جبهة النصرة تحت قيادته العراقية. واستمر ذلك حتى مطلع عام 2014 حين نشب الخلاف رسمياً بين التنظيمين وأنهى الظواهري علاقات “القاعدة” بـ”داعش” الذي أعاد تسمية نفسه بـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” وبات يُعرف اختصاراً بـ”داعش”. وانضم إليه أغلب المقاتلين الأجانب في “النصرة”، وهو ما شكل افتراقاً علنياً عن “القاعدة”، حيث طارد “داعش” جميع الكتائب والفصائل المعارضة الأخرى وعلى رأسها “النصرة”، وسيطر على المناطق الممتدة من الحدود السورية العراقية وصولاً إلى أطراف مدينة حلب شمالي سوريا.

أسباب الخلاف “أيديولوجية”

يرى باحثون أن انفصال التنظيمين بعضهما عن بعض، حدث بسبب الاستراتيجية المتبعة والعدو المستهدف. كما أن هناك خلافات فقهية وفكرية بينهما. كما يختلف التنظيمان على الأولويات، ففي حين أن “القاعدة” المسؤولة عن الهجوم الأكثر دموية في التاريخ على برجي التجارة العالمية في نيويورك (11 سبتمبر 2001)، تعتبر أن “تدمير الغرب شرطاً مسبقاً لإنشاء دولة إسلامية”، يضع “داعش” “تأسيس الخلافة والأراضي المحررة”، شرطاً مسبقاً لمعارك ستسمح بضرب العدو في الصميم، حسب تقرير نشر في المجلة الدولية والاستراتيجية الصادرة عن معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020. وجاء في مقال نُشر في مجلة “سي تي سي سينتينل” (CTC Sentinel)، أن “حدة المعارك مع الجيوش العربية والغربية كان من شأنها توحيد التنظيمين، لكنهما دخلا بالعمق في عنف أخوي في مناطق نزاع متعددة، بدءاً من سوريا ثم ليبيا، وصولاً إلى اليمن وأفغانستان، وأخيراً في الساحل الأفريقي”.

ويشرح توماس جوسلين من “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” وهو مركز أبحاث في واشنطن أن “الخلافة المعلنة بشكل ذاتي أنشأت كرهاً مؤسسياً مهماً تجاه القاعدة”، مضيفاً أن الجماعتين تجدان أحياناً نقاط تلاقٍ معينة لكن “مصالحة شاملة ليست بالأمر المرجح في المدى القصير. ونقاط التشابه بين تلك التنظيمات أنها جماعات متشددة تهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية عبر الجهاد المسلح، وفيما تحصر طالبان نشاطها داخل أفغانستان، فإن لكل من القاعدة وداعش فروعاً في دول عدة، وبالتالي فهما لا يعترفان بالحدود الدولية”.

“هيئة تحرير الشام” بدل “جبهة النصرة”

بعد التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية (2016)، غير الجولاني اسم “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام” ولاحقاً “هيئة تحرير الشام”، وأعلن الانشقاق عن تنظيم “القاعدة”. فقامت مجموعة من المتشددين بإنشاء تنظيم سموه “حراس الدين” ليكون الفرع الجديد لـ”القاعدة” في سوريا. وحاولت الهيئة “إظهار اعتدالها” من جهة والالتحاق بالمعارضة السورية عبر تنفيذ أجندة محلية الطابع، وهذه الاستراتيجية هي ما قامت عليه في الأساس استراتيجية تنظيم “داعش”، أي السعي إلى بسط السيطرة على الأرض وتوسيع النفوذ، لإقامة دولة تحت سلطة حكومية يعيش فيها مسلمون سُنة من دون غيرهم، يخضعون لمفهوم خاص للشريعة الإسلامية اختاره التنظيم. وهذا ما يميز التنظيم، أي إنه لا يعمل بعقلية التنظيمات الأخرى التي تخوض فقط القتال والمعارك، بل يدير المناطق الواقعة تحت سيطرته بعقلية الدولة، إذ يتولى مختلف شؤون ومناحي حياة مقاتليه والمواطنين الذين يعيشون في المناطق التي تخضع له، من تعليم وقضاء وصحة وكهرباء، ما يشير إلى أنه يخطط لإقامة دولة بكل ما للكلمة من معنى. لكن الصدام ما لبث أن نشب بين الهيئة وجماعة “أنصار الدين”، واستطاعت “الهيئة” بسط سيطرتها على من تبقى من عناصر تابعين لـ”القاعدة” في شمال غرب سوريا، وبالتالي دحر “أنصار الدين”. وتحاول “هيئة تحرير الشام” إظهار انفصالها التام عن “القاعدة” بالتعبير عن انتمائها السوري، للحصول على اعتراف إقليمي ودولي بسلطتها في المناطق الخاضعة لها. وهي بهذا تتمثل بما قامت به “طالبان” في أفغانستان.

براغماتية “طالبان” تؤثر في التنظيمات المتطرفة

وعلق الباحث السوري عزام القصير المقيم في لندن، في حديث لمركز “كارنيغي للشرق الأوسط”، ورداً على سؤال حول تأثير انتصار “طالبان” في أفغانستان في “هيئة تحرير الشام”، فقال “كان لحركة طالبان تأثير في استراتيجية تنظيم هيئة تحرير الشام وتفضيلاته قبل وقت طويل من انتصارها في أفغانستان. فقيادة هيئة تحرير الشام كانت تراقب وتسجل الملاحظات منذ بدء المفاوضات بين طالبان والأميركيين في الدوحة قبل سنتين. والدرس الأساسي الذي تعلمته الهيئة من تجربة طالبان هو إذا كان النأي بالنفس عن تنظيم القاعدة والامتناع عن شن عمليات إرهابية في الخارج يقودان إلى القبول الدولي، فليكن”. وأضاف أن “هذه المقاربة لا تصوَّر داخلياً على أنها مربحة على الصعيد الاستراتيجي فحسب، بل تُقدَّم أيضاً بأنها جائزة دينياً بموجب مبدأ المصلحة. والقدرة على استخدام هذه التبريرات الدينية، مثل نجاح طالبان الأخير، تشي بأن المستقبل مفتوح أمام خطوات براغماتية أكثر جرأة يمكن أن تُقدِم عليها قيادة هيئة تحرير الشام، وقد تتخذ شكلاً من أشكال التعاون مع تركيا وما يُسمّى بالجيش الوطني السوري المدعوم من أنقرة”.

وعن كيفية استمرار “الهيئة” اقتصادياً، صرح أنه “في حال ثمة أموال خارجية تصل إلى هيئة تحرير الشام، فلا بد من أنها ضئيلة. وفي ضوء هذه الأوضاع، تحول التنظيم نحو الاعتماد على الاقتصاد المحلي من خلال الضرائب والتعرفات، بما في ذلك الإيرادات المستمدة من المعابر الحدودية، إضافة إلى إدارة القطاع المصرفي والزكاة. ويُشار في هذا الصدد إلى أن هيئة تحرير الشام تعول إلى حد كبير على المصادر الدينية المحلية التي تجمع التبرعات من الأفراد والجمعيات الخيرية الإسلامية”.

هل اندحر تنظيم “القاعدة”؟

يرى متابعون كثر لحركة تنظيم “القاعدة” على مدى العقدين الماضيين، وهو الذي تزعم حركة التشدد العالمي، أنه فقد زمام المبادرة ومعركة ريادته بوجه “داعش”. فلم يعد قادراً على مضاهاة قوة “داعش” مالياً وتنظيمياً وعسكرياً ولا حتى إعلامياً، وعلى العكس أيضاً، أعلنت بعض فروعه التحاقها بـ”داعش”، ومبايعة البغدادي الذي أعطى لمشروع التشدد العالمي نفساً جديداً لا يزال يستقطب أتباعاً وشباباً عبر العالم، ذكوراً وإناثاً من كل الأعمار لا يترددون أمام دعوته للعيش في كنف “دولته”. ومن التنظيمات التي أعلنت الولاء لـ”داعش”، “ولاية سيناء” في مصر، التي كانت تُعرف باسم “أنصار بيت المقدس” قبل إعلان مبايعة “داعش”. و”ولاية خراسان” وهو الفرع الإقليمي لـ”داعش”، وينشط في أفغانستان وباكستان والمناطق المجاورة الأخرى. و”جماعة أبو سياف” في الفيليبين التي على ما يبدو لها ارتباط بالتنظيم، وغيرها من الجماعات المتطرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button