تأثير إيران و”الإخوان” على الإعلام الأميركي* وليد فارس
النظرة الطوباوية للصحافة بدأت تتقهقر لا سيما منذ فترة أوباما وما سمي "الربيع العربي"
النشرة الدولية –
كثيرون في العالم العربي والشرق الأوسط الكبير لا يزالون مصدومين من الاتجاه المُسيس الذي أخذه ولا يزال، الإعلام الأميركي حيال قضايا المنطقة، لا سيما ملفات الإرهاب، والصراعات، والثورات، والأنظمة. ويستمر المثقفون العرب والشرق أوسطيون في التعجب عند قراءاتهم أم مشاهداتهم التقارير الصحافية الصادرة في واشنطن ونيويورك من وسائل كانت دائماً تعتبر “موضوعية ومهنية” وليست مسيسة أو مسيطر عليها من قبل الحكومة أو أنظمة أو منظمات خارجية. ولكن هذه النظرة الطوباوية للصحافة الأميركية بدأت تتقهقر لا سيما منذ فترة باراك حسين أوباما، وبخاصة منذ ما سمي “الربيع العربي”، حيث وقفت هذ المؤسسات الإعلامية، وبشكل واضح وفاضح مع قوتين ديكتاتوريتين في الشرق الأوسط، إيران و”الإسلامويين”. كيف كان ذلك ممكناً.
الإعلام الأميركي والحرب الباردة
منذ الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، تميزت الصحافة الأميركية بالتوازن ما بين ليبرالييها ومحافظيها، لا سيما في ما يتعلق بالأمن القومي الأميركي، والشؤون الدفاعية. إلا أن الإعلام بدأ يشهد نزعة أكثر يسارية خلال حرب فيتنام حيث عبأت القطاعات الأكثر يسارية الجمهور ضد الحرب، وهي كانت جزءاً من التيار اليساري الأوسع المناهض للحرب الباردة، المعروف بـ”مجموعات السلام”.
إلا أن هذا التيار، كما جاء في أدبياته، كان ماركسياً، وقد كشف مسؤولون سابقون في الاستخبارات السوفياتية أن هذه الأخيرة كانت لها اتصالات عميقة مع هذه المجموعات، ما طرح السؤال في التحقيقات التاريخية: هل كانت موسكو تحرك “جماعات السلام” إبان الحرب الباردة، وبالتالي تؤثر على كتاباتها والخط التحريري في بعض وسائل الإعلام الأميركي؟ الجواب هو في النتيجة، أي ما كتب، ونشر. أي أن جزءاً كبيراً من المواد التي استعملت كانت لصالح الأجندة السوفياتية، وضد مصلحة الأمن القومي الأميركي. هذا ما خلص إليه، ليس فقط العاملون السابقون في الأجهزة السوفياتية وحلف “وارسو”، بل أيضاً المنشقون عن تلك الأنظمة. خلاصتهم أن الاختراق أو التأثير على إعلام الخصم كان جزءاً أساسياً من استراتيجية “البروباغندا”، والسؤال هنا، من ورث هذا التأثير بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟
بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء “الخطر الأكبر”، اضطرت الشبكات التي كانت “تدافع عن السلام وترفض الحرب”، وهي كانت صناعة مربحة في الغرب والولايات المتحدة، أن تبحث عن قوى خارجية أخرى “تحميها من أميركا”، فوجدت في إيران و”الإسلامويين” على أنواعهم، فريقاً جديداً. أما كيف تم التزاوج بين الشبكة اليسارية الراديكالية وما سمي في التسعينيات “الإسلام السياسي الراديكالي”، ومن سعى للتواصل بمن أولاً، فهذا له دراسته التاريخية الخاصة.
من هنا بدأنا نرى في الصحافة العامة الأميركية خلال منتصف التسعينيات اتجاهاً ليناً نحو النظام الإيراني و”الإخوان المسلمين”، على الرغم من أزمة الرهائن في طهران ولبنان في الثمانينيات، واشتباكات مقديشو في 1991، والضربة الأولى ضد أبراج نيويورك في 1993، وضربات السفارات في أفريقيا الشرقية في 1998، وتفجير البارجة في ميناء عدن عام 2000، فـ”نيويورك تايمز”، و”واشنطن بوست” قللتا من أهمية إعلانات الحرب التي أطلقها أسامة بن لادن في 1996 و1998. وفي موازاة ذلك، نادراً ما كانت وسائل النخبة الصحافية الأميركية تركز في ملفاتها على مصير الشعوب التي تحكمها القوى الخمينية، وحلفاؤها، و”الإسلامويون”. والمفارقة أن التقاطع في الأفكار بين أهداف القوى الراديكالية في الشرق الأوسط والشبكات الراديكالية التي توزع أجندات الراديكاليين في الصحافة الغربية والأميركية، يثبت أن هناك تواصلاً بين الطرفين. إذ لا يمكن أن تتطابق الأجندات بهذا الشكل، من دون أن يكون هناك تواصل بين الاثنين.
عندما شنت إدارة جورج بوش “حربها على الإرهاب” بعد ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، مشت الصحافة الأميركية العامة وراء الحملة لإسقاط حركة “طالبان”، ومطاردة تنظيم “القاعدة”، وقلما انتقدت البيت الأبيض على أهداف اجتياح أفغانستان. ولكن عندما أعلن بوش عن “محور الشر”، وأدخل فيه إيران، وبعد ذلك عندما أعلن أن “القاعدة” و”حماس” و”حزب الله” هم رؤوس الإرهاب، بدأ الجزء اليساري في الإعلام الأميركي، المتواصل مع إيران و”الإخوان”، ينتقد منطق الحرب على الإرهاب وشعار “محور الشر”.
ولكن بمجرد أن أمرت إدارة بوش القوات الأميركية باجتياح العراق، شن اللوبيان الإيراني و”الإخواني” حملة لعشرين سنة ضد التدخل الأميركي في البلدين، هدفه الضغط لإخراج الأميركيين من المنطقة ككل. ركزت الـ”CNN” على “الممارسات الخطأ” للقوات الأميركية في البلدين، ونشرت “واشنطن بوست”، و”نيويورك تايمز”، و”لوس أنجليس تايمز” مقالات تنتقد السياسة الأميركية في المنطقة. وحتى الإذاعة العامة “NPR” اتبعت الخط التحريري نفسه، قد يصف مراقب محايد أن هذه الوسائل هي “صحافة المعارضة” تحت بوش، وبالتالي فهي تنتقد أداء البيت الأبيض. صحيح أنها باتت إعلاماً معارضاً، وليس محايداً كما كان في الماضي، ولكن بعض هذه الصحافة بات يتبنى أجندة تلك القوى الراديكالية في المنطقة، وليس فقط أجندة معارضة أميركية عادية. والفرق كبير.
انحياز أكثرية الإعلام الأميركي لأجندات مضادة لأجندة بوش في الشرق الأوسط تعمق مع وصول باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، فباتت أجندة الرئاسة الجديدة وأكثرية الصحافة واحدة، حيال المنطقة. وحيث إن أوباما اتجه إلى اتفاق شراكة مع النظام الإيراني منذ 2009، وإلى شراكة أخرى مع “الإخوان المسلمين” في السنة نفسها، تطابقت الأجندات عبر الإعلام. فباتت الصحف الكبرى تصف “الإخوان” بالمعتدلين والمواقع الإلكترونية المؤيدة للعهد تدافع عن مشروع فك الاشتباك مع إيران. ودخلت منشورات ومجلات أقصى اليسار المؤيد لسياسة جديدة مع طهران و”الإخوان”، على الخط، لا سيما “Mother Jone”، و”Daily Beast”، و”Salon”، لتدعم خط البيت الأبيض، وتواجه أخصامه في الإعلام مثل “Fox News”، و”واشنطن تايمز”، و”National Review” وبرامج الـ”Talk Show” الإذاعية الواسعة.
وتكثف تأثير النخب الأكاديمية المؤيدة لـ”الإخوان”، وإيران في مرحلتين أساسيتين إبان مرحلة رئاسة أوباما.
خلال ما يسمى “الربيع العربي” وقفت الصحافة الكبرى المؤيدة لأوباما مع من دعمهم في مصر، وليبيا، وتونس، وسوريا، واليمن. ونشرت مقالات تؤيد “سقوط الديكتاتوريين” وتصف “الإسلامويين” الذين استولوا على السلطة أو المعارضة، بأنهم “الثوار”. وتبين تدريجياً أن هؤلاء “الثوريين” كانوا إما “إخواناً”، أو “قاعدة”، أو ما بين الاثنين. إلا أن الصدمة الكبرى عند الليبراليين العرب والأقليات الشرقية أتت عندما غطت الـ”CNN”، و”واشنطن بوست”، و”نيويورك تايمز” الإسلاميين كممثلين للشعب في مصر، وليبيا، وتونس، وتخلت عن الليبراليين وقوى المجتمع المدني التي كانت تعارضها. وأكبر صدمة لدى قوى الاعتدال حصلت في يوليو (تموز) 2013 عندما وصفت هذه الحلقات في الصحافة العامة أكبر تظاهرة في التاريخ، التي خرجت ضد نظام محمد مرسي في 30 يونيو (حزيران)، ودعمها الجيش، بأنها انقلاب. وبين عامي 2011 و2014، غضبت الطوائف المشرقية المسيحية من مصر إلى سوريا والعراق، من هذه الوسائل لأنها في نظرهم وقفت مع المتطرفين والتكفيريين في وجه الأقليات والنساء. ووصل الغضب لدى الجالية القبطية إلى تنظيم مسيرة إلى مكتب “واشنطن بوست” في العاصمة.
وبين عامي 2014 و2016، ركزت بعض أقلام وأصوات هذا الإعلام على دعم سياسة أوباما لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. فاستفاضت الافتتاحيات ومقالات الزائرين بمزايا اتفاق الـ”JCPOA”، وقلصت مساحات صفحاتها لاستقبال أصوات المعارضة الإيرانية، والعراقية، والسورية، واللبنانية، لا سيما منذ 2011. وكثفت القنوات الأميركية الكبرى، ما عدا “فوكس”، دفاعها عن الاتفاق، وتقريباً منعت منتقديه من الظهور على الشاشة.
وانقلبت الصحافة المؤيدة لأوباما إلى أشرس إعلام معارض لدونالد ترمب، وحاصرت قنوات “CNN، NBC، CBS، PBS”، إدارة ترمب في السياسة الخارجية، بينما وقفت “Fox” سداً للدفاع عنه، وانتقلت المعادلة الجديدة المقلوبة في التعاطي مع السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. فالصحافة العامة انتقدت انسحابه من الاتفاق النووي في 2018 ولكنها لم تؤيد الثورة الاجتماعية داخل إيران في 2019. انتقدت تصفية قاسم سليماني في العراق وسكتت عن الثورة العراقية ضد إيران. وكذلك انتقدت سياسة مايك بومبيو في المنطقة، وتهربت من دعم الحراك الشعبي في لبنان.
ولكن في مرحلة ترمب، كثفت الصحافة المعارضة له، والمؤيدة لإيران و”الإخوان” هجماتها على القيادة السعودية، والمصرية، والإماراتية، والبحرينية، وصعدت انتقاداتها لحكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل. وركزت صحافة أقصى اليسار قصفها ضد المعارضة الإيرانية، وبخاصة “مجاهدي خلق”، وانتقدت أكراد العراق، والجيش الوطني الليبي، والحركة المدنية في تونس. وكأنها تحولت إلى إعلام أميركي يسوق لأهداف الأجندتين الإيرانية و”الإسلاموية”.
مع انتصار جو بايدن، عادت معادلة الصحافة الأميركية لتنقلب من جديد. إذ انتقلت من معارض شرس لسياسة ترمب في الشرق الأوسط إلى مؤيد لسياسة بايدن. فانتقدت “اتفاقيات إبراهام” لأنها لم تشمل “حماس”. وهاجمت الانسحاب من الاتفاق النووي وطالبت بتوقيعه من جديد. وأيدت الضغط على الرياض لإيقاف حرب اليمن، وصرفت النظر عن رفع وزارة الخارجية للحوثيين من لائحة الإرهاب، وأيدت إيقاف بيع مقاتلات متطورة إلى أبو ظبي، وتخفيف ميزانية مساعدة مصر العسكرية، واستمرت في انتقاد نتنياهو حتى خروجه من السلطة. كذلك تمنعت عن تغطية جدية لانتفاضة “الأهواز”.
أما قمة التسييس فكانت مع التغطية للانسحاب من أفغانستان، حيث عممت هذه الصحافة رواية الإدارة، بأنه “يجب إعطاء فرصة لطالبان” على الرغم من انقلابها العسكري وإطاحتها حكومة منتخبة. نكبة أفغانستان والصور الآتية من الداخل كانت صدمة لا تزال تتطور داخل الذهن الأميركي. فكما لم يفهم الرأي العام الشرقي أداء الجزء الأكبر من الصحافة الأميركية تجاه شعوب المنطقة ودعم هذه الصحافة إيران و”الإخوان” على حساب معتدلي الشرق الأوسط، فإن جزءاً كبيراً من الرأي العام الأميركي، بما فيه من ديمقراطيين، وجمهوريين، ومستقلين، بات متسائلاً عن الأسباب العميقة لوقوف أقلام هذه الصحافة مع المتطرفين في الخارج بينما تدعي أنها تمثل المعتدلين في أميركا.