النشرة الدولية –
النهار العربي –
رغم استهدافها المتكرر من الطيران الإسرائيلي تارةً، ومن طيران التحالف الدولي لمحاربة “داعش” تارة أخرى، لا تزال إيران مصرّة على الاحتفاظ بـ”قاعدة الإمام علي” التي بدأت إنشاءها عام 2018 في محيط مدينة البوكمال، شرق سوريا، بمحاذاة الحدود مع العراق. القاعدة التي أريد لها أن تكون بمثابة جسر للربط بين ضفتي النفوذ الإيراني في كل من سوريا والعراق، تحولت لغزاً عصيّاً على الاكتشاف، نظراً الى ما يحيط بها من غموض وسرية يدلان الى مدى أهميتها في تنفيذ استراتيجية إيران، ويفسران كذلك رغبة الطيران المتعدد الجنسيات في استهدافها بين الحين والآخر، إدراكاً على ما يبدو من واشنطن وتل أبيب لمدى خطورة هذه القاعدة في معادلة الصراع ضد إيران وأذرعها في المنطقة.
تتكوّن القاعدة من ثلاثة أقسام رئيسية موزعة على أماكن متقاربة جنوب مدينة البوكمال، ويتم تحسينها وتطويرها بحسب الإمكانات المتوافرة تلبية للأوامر القادمة من طهران، كما يتم تزويدها بالتعزيزات العسكرية ورفع مستوى ترسانتها من مخزون الصواريخ والقذائف وشبكات الاتصالات، في مراعاة لمتطلبات المواجهة مع خصوم الداخل والخارج.

ولأنه لا مكان للأسرار في بيئة تشبه بيئة الحرب السورية التي تخترقها مختلف أجهزة الاستخبارات في العالم، فقد تمكّنت بعض شبكات الأخبار المحلية من كشف الكثير من تفاصيل إنشاء القاعدة وعملها، وتحديد دورها المحوري في تنفيذ استراتيجية طهران وتحقيق أهدافها العسكرية والأمنية. وقد صدر قبل يومين تقرير هام عن شبكة “عين الفرات” يكشف خفايا القاعدة ومكوّناتها وطبيعة عمل كوادرها وحقيقة الدور الموكول إليها.
بدأ العمل بالقاعدة في منتصف عام 2018، بعد قرار من مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، الذي كلّف فيلق القدس الإيراني إنشاءها باعتباره الوحدة العسكرية العاملة خارج الحدود الإيرانية، واختير لها اسم “قاعدة الإمام علي” لما يحمل هذا الاسم من قدسية عند المذهب الشيعي، ما يُسهّل عملية استقطاب الشباب للانتساب الى الميليشيات التي تخضع لهذه القاعدة.
أشرف “الحاج أبو عبد الله” (قائد في فيلق القدس الإيراني) على وضع اللبنات الأولى للقاعدة، واستمر العمل تحت إشرافه بضعة أشهر، ثم تسلّم “الحاج عسكر” المهمة لأسباب مجهولة، ليستمر في العمل بالقاعدة حتى يومنا هذا، رغم تعرّضها لعدد كبير من الغارات والضربات الصاروخية من إسرائيل والتحالف الدولي في سوريا، إلا أن هذه الضربات لم تؤثر كثيراً في تجهيزات القاعدة، لأنها محصنة بمتاريس تحت الأرض.
وتقع القاعدة عند الجهة الجنوبية لمدينة البوكمال باتجاه البادية، وقد قُسّمت إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول
يقع القسم الأول من القاعدة في منطقة الحسيان جنوب غربي مدينة البوكمال، وكان العمل فيه دقيقاً وسرياً جداً، ويعتبر الأهم بين القواعد الثلاث. فبحسب مصادر خاصة لشبكة “عين الفرات”، فإن هذا القسم يضمّ مستودعات سلاح ضخمة، ومستودعات صواريخ بعيدة المدى وصواريخ سكود عملاقة، ويخزّن الحرس الثوري الإيراني فيه مجموعة من الصواريخ المصنّعة في إيران مثل صواريخ الرعد وصواريخ فجر5، كما يحتوي على منصات لإطلاق هذه الصواريخ، وجهزت القوات الإيرانية مستودع صواريخ حرارية مجهزاً بمتطلبات الحماية من القصف الجوي والصاروخي، فيما نشرت أجهزة رصد ومراقبة إيرانية في معظم أجزاء القاعدة.
أدخلت القوات الإيرانية الصواريخ إلى القاعدة على دفعات، بواسطة برادات كبيرة مغلقة، وسيارات نقل الخضر الكبيرة القادمة من إيران عن طريق المعبر الإيراني، ويتم إدخالها ليلاً مع إعلان حظر التجوال.
يُعد “الحاج أبو الحارث” الإيراني المسؤول المباشر عن القسم الأول من قاعدة الإمام علي، أما عن بدايات إنشاء القاعدة، فبعد معاينة مكان إنشائها، وُضعت مخططات البناء بإشراف مهندسين إيرانيين، ويعمل على تنفيذها قسم الإنشاءات التابع للحرس الثوري الإيراني، فيما وفر بعض متعهدي البناء مثل (جميل فارس الدغيم) اليد العاملة وبعض الآليات من حفارات وجرافات وغيرها، كما أن هناك ورش عمل استُقدمت من قرية حطلة (شرق دير الزور) التي ينتسب بعض أهلها الى المذهب الشيعي.
تعمل الورش على تحديد قطاعات وفق مخططات البناء، ليبدأ الحفر بعمق يصل إلى 6 أمتار وبمساحة نحو 600 متر مربع، لتشكل قالب المستودعات أو المهاجع، ويتم بعدها تحويل الحفر إلى صناديق إسمنتية كبيرة. وجلب الحرس الثوري مواد البناء الأساسية من إيران عن طريق العراق، ويتم إدخالها ليلاً إلى سوريا.
بعد بناء الجسم الإسمنتي، ينتهي عمل الورش المحلية، ويبدأ عمل ورش إيرانية مختصة بتحويل هذه الكتل الإسمنتية قواطع معدّة لتحمّل ضغط الانفجارات ومقاومة للرطوبة، كما تترك البوابات بعيدة عن المبنى مسافة تقدر بـ15 متراً، وهي مجهزة أيضاً بالإسمنت، ويتم توسيع البوابة والنفق لتسمح بدخول سيارات الى داخل المستودع، ويبعد كل بناء نحو 20 متراً عن الآخر، وهي متصلة بشبكة أنفاق كبيرة تسمح بحركة الآليات داخلها.
إضافة إلى المستودعات الخاصة بالصواريخ والأسلحة الثقيلة، يضم القسم الأول من القاعدة حُسينية ومساكن خاصة بالضباط والجنود الإيرانيين، كما يحوي هذا القسم مقار قيادة رئيسية وغرف عمليات عسكرية ومقار رئيسية للإشارة والاتصالات، كما يحتوي على مستودعات للمواد الغذائية والمياه الصالحة للشرب معدّة للاحتفاظ بهذه المواد فترات طويلة، ولتزويد هذا القسم بالماء الصالح للشرب، حفر الإيرانيون آباراً تساعد في استجرار الماء الى القاعدة للغسيل والتنظيف.
تأمين القسم الأول من قاعدة الإمام علي وحمايته:
يحيط بالقسم الأول من قاعدة الإمام علي أكثر من 60 دشمة لحمايتها، كما زرعت وحدات الهندسة التابعة لفيلق القدس إقسومات وحقول ألغام في الطرق والأراضي حول القاعدة، باستثناء الطرق المخصصة للميليشيات، بالإضافة الى كاميرات المراقبة في محاولة لتأمين القاعدة من عمليات التسلل والاختراق، وتعتبر منطقة الحمدان مركز الحماية والتدخل السريع إذا كانت هناك حاجة لذلك. وتمت مصادرة جميع الممتلكات بالقرب من القاعدة ومُنع الاقتراب منها.
مداخل القسم الأول
هناك مداخل عدة للقاعدة بعضها سري، أحد المداخل على أطراف منطقة الحزام الأخضر من الجهة الغربية، وهو متصل بالنفق الذي جهزه تنظيم “داعش” وعملت الميليشيات على توسيعه، حيث أصبح يستوعب حجم الآليات العسكرية، وهناك مدخل من جهة منطقة الحمدان، وهو طريق ترابي، ومدخل آخر من منطقة الحزام الأخضر.
زار القاعدة وفد رفيع المستوى من “حزب الله” اللبناني وقياديون إيرانيون، ولم يُسمح لضباط النظام زيارة القاعدة، ويقوم “الحاج مهدي الإيراني”، قائد الميليشيات الإيرانية في المنطقة الشرقية كلها، بزيارة القاعدة بين فترة وأخرى للإشراف على تقدم إنشائها، فيما كُلف “الحاج عسكر”، قائد الميليشيات في المنطقة، بالإشراف المباشر على القاعدة.
القسم الثاني من القاعدة
يقع القسم الثاني من القاعدة في منطقة الصلبي في ريف البوكمال، ويمتد هذا القسم على مساحة واسعة يلاحظ فيها انتشار للأبنية فوق الأرض، لكن القاعدة الأساسية والسرية محصورة في مساحة معينة مخفية تحت الأرض، فيما تستخدم الميليشيات بقية المساحة للتمويه وإخفاء مكان هذا الجزء.
وتختلف تضاريس القسم الثاني من القاعدة عن جزئها الأول بأنها منطقة مُشجّرة. ولها مداخل عدة، أهمها المدخل الرئيسي من جهة الهري من منطقة الصلبي والسكة مباشرة، ومدخل بالقرب من جسر السكة المهدوم، كما هناك مدخل سري وهو نفق يصل إلى حي التنك في منطقة حصيبة العراقية، حيث هناك مقار تابعة لفيلق القدس، وهذا النفق كان تنظيم “داعش” قد عمل على حفره سابقاً، وعملت الميليشيات على تطويره لمصلحتها.
بدأ العمل في القسم الثاني في نهاية عام 2018، أي بعد أشهر قليلة على البدء بإنشاء القسم الأول، بعد عمليات مسح ودراسة لتضاريس المنطقة والتأكد من ملاءمتها للمخططات المعدة للقاعدة.
عملت ورش الحفر على صناعة تجاويف داخل الجبال الموجودة هناك، وإنشاء تقطيعات إسمنتية تهدف إلى الاستفادة من الجبال كحماية طبيعية إضافية للحماية التي توفرها مخططات الإنشاء، حيث بُني في كل جهة جداران من الإسمنت المسلح. وتختلف مساحة كل بناء باختلاف حجم الجبل أو التلة الحاضنة لهذا البناء، كما أنشأت ورش البناء مستودعين شبيهين بالمستودعات في القسم الأول من القاعدة، بشكل كتل إسمنتية تحت الأرض ومتصلة بشبكة أنفاق.
تأمين القسم الثاني وحمايته
أقيمت دشم على طول المنطقة الواصلة بين قسمي القاعدة، وزرعت إقسومات وحقل ألغام في محيطها ودعمت أكثر من جهة البادية، استقدم الحرس الثوري عشرات الغرف المسبقة الصنع ونقلها إلى منطقة الحزام والحسيان ومنطقة الخرش (التي فيها القسم الثالث من القاعدة) لزيادة نقاط الحراسة وعدد العناصر بهدف توسعتها توسعةً أكبر.
أما المسؤول المباشر عن القسم الثاني فهو “الحاج أبو محمد”، ومقر إقامته في منطقة الحزام، والى جانبه منزل ومقر سري لـ”الحاج عسكر” القائد العام والمشرف على بناء القاعدة بالكامل.
يعتبر القسم الثاني قاعدة دفاع جوي، تحتوي على مستودعات صواريخ مضادة للطيران وقواعد إطلاق صواريخ جوية بعيدة المدى. ووُضعت رادات في الجبال التي تم تفريغها بهدف رصد الطائرات في منطقة القاعدة.
على غرار القسم الأول، فإن القسم الثاني يحوي حسينية ومعمل ثلج وغرف عمليات وغرف إشارة ومستودعات كبيرة للذخيرة المضادة للطائرات، كما رصدت مصادر “عين الفرات” من داخل الميليشيات الإيرانية وجود عربات “شيلكا م/ط”.
كما تحتوي أيضاً على مستودع لطائرات الاستطلاع الصغيرة التي تعمل بجهاز تحكم عن بعد، وأُنشئت أبراج رصد للمراقبة وبرج إشارة وبرج اتصالات.
استهدفت القسم الثاني مرات من طيران التحالف، كانت نتائجها تدمير منزل “الحاج عسكر” والحسينية ومعمل الثلج، إلا أن مستودعات الصواريخ لم تُستهدف مباشرة.
جلب الحرس الثوري المواد الأساسية لبناء القسم الثاني من دمشق وبعضها من إيران، وكانت المواد القادمة من دمشق تدخل القاعدة نهاراً والقادمة من إيران تدخل ليلاً سراً.
والواضح أن الميليشيات جهزت القاعدة بأنفاق تصلها بالعراق، تحسباً من أن تقع حرب على الميليشيات تجبرها على الخروج من المدينة والريف لتتحصن في القاعدة.
وفي محيط القسم الثاني يتمركز “لواء الإمام الحُجّة” في أطراف قرية الهري، وعدد عناصره نحو 150 عنصراً يحملون الجنسيتين الإيرانية والعراقية، وعملهم يشمل التنسيق بين قواعد الإمام علي الثلاث من الناحية العسكرية، والغرض من وجود هذا اللواء تأمين حماية وتأمين المعلومات عن الاختراقات التي تتعرض لها القواعد. وبحسب مصادر “عين الفرات”، فإن هؤلاء العناصر يوصفون بأنهم الأكثر تشدداً بين الميليشيات الإيرانية والعراقية.
القسم الثالث
يقع القسم الثالث من القاعدة في منطقة الخرش على الشريط الحدودي بين العراق وسوريا بالقرب من مخفر الخرش الحدودي سابقاً، ويربو على تلة عالية تبعد نحو 35 كيلومتراً عن مدينة البوكمال، وهي قاعدة دفاع جوي وفيها رادارات وصواريخ مضادة للطائرات ومستودعات سلاح متوسط وثقيل وأيضاً مستودع للذخيرة، يتصل هذا القسم بالعراق مباشرة، ما يسهّل عملية تزويده بالإمدادات العسكرية واللوجستية.
مهمة القسم الثالث حماية القسمين الأول والثاني من القاعدة، وهذا القسم من القاعدة محصّن تحصيناً كبيراً ضد الغارات الجوية، تتبع قيادته “الحاج عسكر”، أما المسؤول المباشر عنه فيدعى “الحاج رضوان”. يحتوي على آبار مياه، مستودع للأغذية وغرفة إشارة واتصال، كما نُصبت فيه أبراج مراقبة ورادارات. ونقلت إليه غرف مسبقة الصنع لاستخدامات متعددة.
الملاحظ أن هذا القسم هو الوحيد الذي انتهت ورش العمل من إنشائه بالكامل، وذلك لعدم وجود امتداد له واتصال بمواقع قريبة، وله ثلاث نقاط موزعة بالقرب من القاعدة، وفيه 200 عنصر من الجنسية العراقية والإيرانية والأفغانية، وكلهم من أصحاب الاختصاص والخبرة.
ولا يمكن الوصول الى القسم الثالث من القاعدة إلا للقادة المسؤولين عنه، وذكرت المصادر أنهم محددون بالاسم، ويمنع الاقتراب منه حتى من العناصر الإيرانيين والعراقيين التابعين للحرس الثوري الإيراني.