عناية إيناس تضفي على فن البوب آرت نكهة لبنانية… أعمال ناطقة بأحوالها وزمنها الخاص
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
تستمر الفنانة التشكيلية اللبنانية عناية إيناس حديب بنشر صور لأعمالها الفنية على صفحتها الفيسبوكية يمكن ضمها في مجموعة واحدة، وتتشكّل هذه المجموعة من لوحات متوسطة وصغيرة الحجم جسّدت قناني وعلبا لمنتجات تجارية اشتهرت في الماضي، لاسيما في فترة الثمانينات وندر أن يكون أي بيت لبناني قد خلى منها. من تلك المنتجات نذكر علبا لماركات شهيرة من حليب البودرة والعصائر والسكاكر.
الغريب في الأمر أن الفنانة توردها على صفحتها مع تعليقات توحي بأنها لا تعيرها اهتماما يفوق حد كونها مجموعة تتوسّع مع كل إضافة رسم.
وأطلقت عليها صفة “سكيتشات” أي “رسوم أولية”، وهي ليست أقل من أعمال فنية ناضجة ترتجّ فيها ملامح الأشياء المرسومة وكأنها بعد رحلة مرهقة في مسبار الزمن نحو المستقبل، أي زمننا الحاضر.
ديمومة الذاكرة
هذه الأعمال هي أبعد ما يكون عن تخطيطات أولية، لا من ناحية رسمها وألوانها، ولا من ناحية الخلفية الفنية التي تستعيد فيها الفنانة “صبغات” وتصاميم لونية درج استخدامها كثيرا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لاسيما في تغليف علب الهدايا وورق الطلاء الملوّن الذي كان يتم لصقه على الجدران أو في دواخل الجوارير الخشبية، جوارير كانت تعبق منها رائحة الورق والمواد الملوّنة.
أما ما هو أغرب من ذلك فهو الأسلوب العفوي الذي تتعاطى فيه الفنانة مع كل ما يتعلق بتلك الأعمال. أسلوب كثّف شعور الناظر إلى الأعمال بأن كل استعادة لأشياء الماضي التي تقدّمها حديب بحساسية واضحة هي ضرب من ضروب لعبة خاصة جدا لا تخلو لا من الشعر ولا من المرح، ولا تخلو أيضا من المصداقية.
في هذا السياق نذكر بعض ما كتبته الفنانة ليرافق صور أعمالها المنشورة على صفحتها الفيسبوكية “سكيتش الليلة البارحة”، و”سكيتش اليوم” و”استمر في رسم السكيتشات اليوم”.
يرى الناظر إلى هذه الأعمال الفنية المتتالية دعوة كي يقيم بحثا عمّا نشرته الفنانة سابقا من تلك المجموعة ليجد ذاته يدخل في ما يشبه “لعبتها”، بل لنقل “ملهاتها” الطفولية/ السحرية التي ابتكرتها ومارستها خلال فترات متباعدة من الزمن.
هي، أي الفنانة، في قانون تلك الملهاة تُعيد وتستعيد وتبتكر على ورق وقماش، وهو، أي الناظر إلى الأعمال المُنجزة، لاسيما ذاك الذي “تجاور” مع تلك الأشياء في الواقع مكانيا وزمنيا وربما احتفظ ببعضها من طفولته على رف مكتبة أو على طاولة إلى جانب كنبته المفضلة، هو يغوص في ذكرياته بحثا وتلقفا لكل ما دار في فلك هذه الأشياء من أحداث وكل من حضر من شخوص.
وعند سؤالنا لها كيف يمكن أن تذكر كل هذه الأشياء، أو على الأقل أن تعني لها حدّ رسمها وجعلها أبطالا تحتل المساحة الخلفية اللونية، وهي من مواليد 1983، أجابت “أعتقد أنني أملك ذاكرة قوية جدا.. وقمت في أحيان كثيرة برسم بعض تلك الأشياء عن قصد منقوصة أو بضياع تفاصيل ملامحها، ذلك لأنها فعلا غابت بشكلها عن ذاكرتي”.
وتسترسل “أحيانا أتذكّر أشياء ومنتوجات معينة، ولكن لا أذكر هيئتها، فأحاول أن أبحث ما بين الأصحاب والأقرباء عن صور فوتوغرافية لها. وقد أرسل لي الكثيرون صورا تُظهرها، فاستطعت تذكّر شكلها، ومن ثمة نقلها إلى رسومات. وعندما لا أعثر على تلك الصور ألتجئ إلى المواقع الإلكترونية لعلها تحتفظ بطريقة أو بأخرى بصور لها”.
خصوصية متمرّدة
ليست الفنانة حديب لا أول ولا آخر فنانة استخدمت ألوانا قوية ورسمت أشياء وبضائع استهلاكية من الماضي، أصبحت أيقونات لعصرها. وربما لأجل ذلك قد تُعتبر أعمالها منتمية إلى عالم البوب آرت.
وإن كانت فعلا كذلك، فقد وهبت الفنانة البوب آرت نبرة حميمية وخصوصية لا يؤمن بها فن البوب آرت الذي من أحد أهم مقوماته هو إبراز نسخ عديدة من الشيء الواحد في لوحة واحدة دحرا لمنطق الفرادة والخصوصية، وتعبيرا عن سلطة المجتمع القائم على الاستهلاكية والوفرة.
وبقيت أعمال الفنانة ناطقة بأحوالها وزمنها الخاص الناجي من الماضي ومنها ما ظهرت فيه الأشكال الهندسية التي كانت ترصّف بها أرض الديار البيروتية. ومنها ما ارتبط بعادات مارسها معظم سكان بيروت، وهي وضع النبات كالحبق والزعتر في علب الحليب الفارغة.
وأغلبها يملك ظلالا واقعية وأخرى غير واقعية كما في اللوحة التي تظهر قطعة سكاكر مطاولة. وبعضها يواكبه تفصيل صغير يدل على ماهية الشيء المرسوم كما الإبرة وخيطها في صورة يحضر فيها مغلف الإبر الشهير برسومات الأزهار الملونة.
أما تلك الرسومات الأقرب إلى “السكيتشات”، وهي ليست كذلك البتة إلاّ لناحية الورقة البيضاء التي رسمت عليه، فترسمها الفنانة نازعة عنها صفة السلعة جاعلة منها منتوجا غير قابل للاستهلاك، شيء أنقذته من النسيان ومكّنته من فرادة وخصوصية في زمن تكاثرت فيه ماركات السلع ورداءتها المتخفية تحت حملات إعلانية نجحت في تجميلها وتحسين سيرتها الشخصية.
وإنتاج الفنانة لا يقتصر على إعطاء صوت لتلك الأشياء الغابرة فقط، فقد رسمت أيضا مجموعة رائعة لقوة تعبيرها عن كلاب في مختلف أحوالها النفسية لاسيما الذعر والعدوانية والتربص لشر غير مكشوف عنه في اللوحة.
وتلقي الفنانة اللبنانية نظرة على العالم الذي تسكنه وذلك الذي وصل إليها عبر صور وأحاديث وشظايا ذكريات شخصية، فتقبض على أرواح الأشياء برفق لا يطفئها ولا هو يعيدها إلى الحياة إلاّ من خلال زمن يسير بموازاة من زمننا الحالي، وهو زمن الذاكرة وديمومتها.